قاسم حسين
حينما زارها قبل سنوات، ووصفها لصغرها بـ laquo;علبة الكبريتraquo;، لم يكن يخطر بباله أن يأتي يومٌ... تلعب فيه دور عود الثقاب.
وحين زارها مرةً أخرى قبل ثلاثة أشهر، كان متودّداً متوسلاً لتخفّف الضغط، فلم تعد الأعصاب تحتمل المزيد.
قبل ثلاثة أيام، خرج أحد الشيوخ من غرمائه القدامى، ليتلو بيان ثورةٍ ملتهباً، فقد جاءت لحظة تصفية الحسابات، في زمنٍ يوشكان أن يصبحا فيه من أيقونات الماضي (فكلاهما وُلد في العشرينيات)، بعدما أصبحت قيادة الشارع بيد الأحفاد.
لم يصدم قرار إغلاق laquo;الجزيرةraquo; أحداً، فقد سبقته خطواتٌ أخرى، من إيقاف خدمات الهاتف النقال والانترنت، وضرب بعض الصحافيين واعتقال مراسلين أجانب، فضلاًَ عن المنظر الذي أساء كثيراً للنظام: مراسل الـ laquo;بي بي سيraquo; الذي خرج على الشاشة بقميصٍ ممزّقٍ مغطى بالدماء، ليسرد بالتفصيل كيف اعتدت عليه عناصر الأمن السرية.
قضيته مع الـ laquo;بي بي سيraquo; مشكلةٌ أخرى، فقد بدأت بالأحضان وانتهت بتحويلها قسراً إلى عود ثقاب آخر. فقبل سنواتٍ اعتبر استضافتها نصراً إعلامياً كبيراً ودليلاً على الانفتاح الإعلامي. وعموماً لم يكن يوجد حينها ما يدعو للخوف، في ظلّ استقرارٍ ظاهرٍ للعيان، شهدت له به وزيرة الخارجية الأميركية قبل أسبوعٍ بالثبات، وهي تنظر إلى بدايات هبوب العاصفة.
لم يخطر بباله أيضاً أن استضافة قناة أجنبية شهيرة، ستعمل فيها كوادر متعلّمة من شباب البلد، ممن لم تستوعبهم مؤسسات النظام... يمكن أن تتحوّل يوماً إلى شوكةٍ أخرى، حين يهبّ الشعب ويرفع الشعارات التي تحرج الحاكم وتطالبه بالرحيل أو المحاكمة.
كان آخر ما يحتاجه في هذا الظرف أن يفتح معركةً مع الإعلام الجديد، معروفٌ سلفاً أنها خاسرة. هل تخلّف مستشاروه عن نصحه بضرورة تجنّب هذه المعركة الجانبية التي ستستنزفه أكثر... أم أنهم هم أيضاً لم يكونوا يدركون أبعادها، لأنهم ببساطةٍ من الجيل القديم، الذي لايزال يؤمن أن الإعلام مجرد بثٍّ لأخبار استقبالات ورحلات الرئيس.
المعارك الحديثة في جانبٍ كبيرٍ منها معركة إعلام. تلك حقيقة أوضح ما تكون في لبنان وغزة. حقيقةٌ لا يريد البعض إدراكها، وإذا أدركوها فلمزيدٍ من التعتيم والتعمية على الأخبار، مع نزعةٍ زائدة نحو حرمان الجمهور من المعرفة وتداول المعلومات.
الدرس الأكبر الذي لا يراد استيعابه، أنك يمكن أن تخدع بعض الناس بعض الوقت، ولكنك لن تخدعهم طوال الوقت. ومن يؤمنون بغير ذلك هم أول ضحايا هذه السياسة الإعلامية الموروثة من القرن الماضي، فتراهم يخدعون أنفسهم وهم لا يشعرون.
ليست مجرد علبة الكبريت، بل إنها سطوة الإعلام الجديد، الذي فتح قنوات اتصال جديدة للمواطن البسيط لاستقبال الأخبار بعدما أغلق عليه الأبواب نصف المواربة. من هنا هذه القرارات التي عفا عليها الزمان، وهو زمانٌ غير زمانهم.
في زمانكم، كان أحدكم يحتاج للحصول على صورةٍ بالأبيض والأسود إلى مصوّرة وفيلم يحتاج تظهيره إلى أسبوع، أما في عصر laquo;المواطن الصحفيraquo;، فيمكن لأيِّ فردٍ أن يوثّق بهاتفه المحمول كيف تطلق الشرطة الرصاص المطاطي على المواطنين العزّل، أو تمطرهم بسحب مسيلات الدموع. كل افتتاحيات صحف الدولة لن تستطيع تكذيب صورةٍ واحدةٍ من هاتفٍ محمول.
قرار المنع الأخير حرّر laquo;العلبة الصغيرةraquo; من القفص، فقد أصبحت في حلٍّ من نشر الصور التي تؤجج النفوس. وهكذا فُتحت نافذةٌ ليشاهد الملايين ما مُنع بثه يوم الجمعة، وصدم الجمهور بمنظر سيارات الأمن وهي تلاحق الجماهير كالفراخ، أو ترشّ بخراطيم الماء الساخن صفوف المصلين لربّ العالمين.
لم تكن مجرد علبة كبريت، إنها إحدى جولات المواجهة الخاسرة مع وسائل الإعلام الجديد.
التعليقات