فيصل القاسم
أيها الثائرون في البقاع العربية احذروا الأفاعي الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية والغربية عموماً. إنها تحاول جاهدة الانقضاض على ثوراتكم باستبدال عميل بعميل كي تبقى متحكمة بأوطاننا من خلال وكلائها المحليين.
متى تمسك شعوبنا العربية بزمام أمورها كاملة؟ أما زال معظم دولنا العربية مُستعمراً بطريقة أو بأخرى، حتى لو حكمها زعماء عرب؟ الطبيب والسياسي التونسي الشهير منصف المرزوقي ألف قبل أعوام كتاباً بعنوانquot;الاستقلال الثانيquot; يجادل فيه بأن البلدان العربية، خاصة تونس، حققت الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، لكنها وقعت في براثن استعمار داخلي متمثل بالنخب التي حلت محل المستعمر الفرنسي، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية الدول العربية. ولهذا راح يطالب المرزوقي وغيره بأنه لا بد من تحقيق الاستقلال الثاني، أي استقلال الحرية والديمقراطية الوطنية. لكن ليسمح لي الأخ منصف بأن أخالفه الرأي هنا، فالاستقلال عن المستعمر لم يحدث أبداً إلا لفترات يتيمة، لكن سرعان ما تم إجهاضها لتعود الدول التي حاولت الخروج على الطوق الاستعماري الغربي إلى الحظيرة الاستعمارية، كما حدث بعد جمال عبدالناصر في مصر.
وقد جاءت الثورات العربية الأخيرة في تونس ومصر واليمن وغيرها لتثبت تلك الحقيقة المرة.
لقد أثبتت الثورة التونسية الأخيرة على الرئيس زين العابدين بن علي أن النظام التونسي لم يكن فقط حليفاً للولايات المتحدة الأمريكية، وهو أمر لا غبار عليه طالما أن السياسة مصالح متبادلة. لكن الأحداث أظهرت ما هو أشد وأنكى، وهو أن جمهورية بن علي كانت في واقع الأمر جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي، وليس مجرد حليف مثل بقية الدول التي تربطها بواشنطن علاقات وثيقة أو طيبة. فبينما تتعامل أمريكا مع حلفائها عادة عبر وزارة الخارجية الأمريكية، فإنها كانت تتعامل مع نظام بن علي عبر هيئات الأمن القومي الأمريكية، كما لو كانت مستعمرة. ولا ننسى أيضاً أن وزير الدفاع الأمريكي السابق سيئ الصيت دونالد رامسفيلد كان يعتبر نظام بن علي أنه النظام المثالي الذي تريد أمريكا تعميمه عربياً.
أضف إلى ذلك أيضاً أن الجمهورية التونسية المزعومة كانت في الآن ذاته خليلة المستعمر القديم فرنسا، بدليل أن باريس صمتت أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً على فظائع بن علي بحق الشعب التونسي طالما أنه كان في الحضن الفرنسي طوال كل تلك المدة. ولم نسمع نقداً فرنسياً رسمياً لسجل بن علي المخزي في مجال حقوق الإنسان إلا بعد أن طردته الجماهير التونسية الغاضبة إلى السعودية، فرفضت باريس استقباله وعائلته على أراضيها، طبعاً بعد أن استهلكته تماماً.
ولا داعي للحديث عن علاقات بن علي الحميمة جداً مع إسرائيل وتسهيله عمليات اغتيال القادة الفلسطينيين على تراب تونس. كيف لا وهناك جالية إسرائيلية قوية للغاية في تونس تتحكم بمفاصل الاقتصاد وغيره.
هل غدت تونس حرة مستقلة بعد الإطاحة بالرئيس بن علي؟ بالطبع لا، بدليل أن نظامه مازال جاثماً على صدور الشعب التونسي متمثلاً طبعاً بالطغمة التي كانت تشاركه الحكم على مدى أكثر من عقدين من الزمن. لم يذهب في تونس سوى ممثل النظام التابع، بينما ظل النظام على حاله. ورغم كل المظاهرات والاحتجاجات التي تلت هروب بن علي، فإن محمد الغنوشي رئيس الوزراء وفؤاد المبزّع رئيس البرلمان وغيرهما من أذناب الطاغية ظلوا يتحكمون بالسياسة التونسية. هل يعقل أن يكون إسقاط الرئيس الطاغوت أسهل من إسقاط أذياله بالنسبة للشعب التونسي؟ ما الفائدة أن نستأصل الورم السرطاني سطحياً، ونبقي على جذوره تنمو وتتضخم أكثر فأكثر؟ إن ذلك يدلنا على صعوبة الاستقلال الحقيقي عن الهيمنة والنفوذ الغربي، والأمريكي تحديداً.
لقد سمحت واشنطن للتونسيين بأن يتخلصوا من رأس النظام فقط. بعبارة أخرى ذهب الديكتاتور وبقيت الديكتاتورية العميلة للمستعمر الغربي على حالها مع تغييرات شكلية في الوجوه فقط. وأنا واثق أن الدكتور منصف المرزوقي ربما سيكتب كتاباً آخر مستقبلاً بعنوان quot;الاستقلال الثالثquot; أو ربما يعود للمناداة بـquot;الاستقلال الأولquot; ليطالب هذه المرة ليس فقط بتحقيق نظام ديمقراطي، بل أيضاً بنظام وطني تونسي يتمتع باستقلال وطني حقيقي وليس مزيف كالذي غشـنا به بورقيبة وبن علي من بعده. باختصار فإن تونس بعد بن علي ما زالت مستعمرة رغم الثورة التونسية المجيدة، فالطبقة التي ما زالت تسيطر على زمام الأمور في البلاد أكثر اهتماماً بتلبية متطلبات المستعمر الأمريكي والفرنسي منه بتلبية مطالب الشعب التونسي البطل.
ولا يختلف الأمر أبداً في مصر. وقد يكون أكثر هزلاً من تونس بكثير. ولعلنا نتذكر أنه بينما كان الشعب المصري بملايينه يصرخ ضد الطاغية في شوارع وساحات وميادين مصر من أقصاها إلى أقصاها في بداية الثورة أطل علينا التليفزيون المصري بخبر عاجل يعلمنا بأن الرئيس مبارك سيدلي بتصريح هام خلال دقائق، فحبسنا أنفاسنا تحسباً لبيان جلل، وإذا به يطل علينا بنبأ يقول إنه قرر تعيين الجنرال عمر سليمان نائباً له، وكأنه بذلك يسخر من صيحات الشعب المصري المدوية وتعطش الشعوب العربية قاطبة للتحرر من نظامه وأمثاله.
تصوروا أن أول خطوة اتخذها الرئيس المصري تحت ضغط الثورة هو طمأنة أمريكا وإسرائيل بأنه فيما إذا اضطر للتخلي عن الحكم فإنه عيّن بديلاً لا يقل ارتهاناً وعمالة للأمريكيين والإسرائيليين بشهادة الصحف الإسرائيلية. تصوروا أن أول ما فكر به حسني مبارك تحت هيجان الجماهير ليس إرضاء الشعب والنزول عند مطالبه بل إرضاء واشنطن وتل أبيب. ولم يتحدث عن تنازلات دستورية إلا لاحقاً. ولا تغرنكم التصريحات الأمريكية التي أبدت استياءها من تعيين سليمان في البداية، فذلك لذر الرماد في العيون، فعمر سليمان يزايد على مبارك في الانصياع للرغبات والتوجهات الأميركية والإسرائيلية. وإذا أرتم أن تتأكدوا اسألوا مفاوضي حركة حماس، فهم أفضل من يستطيع فضح صهيونية عمر سليمان، فقد زار والتقى بالإسرائيليين ونسق، وتآمر معهم أكثر من أي مسؤول في العالم.
ومما يبعث على الغثيان أكثر فأكثر، فإن المسؤول الأمريكي الذي طار على عجل إلى القاهرة في خضم المظاهرات يقال إنه جاء لمساعدة مبارك وحاشيته ومنها سليمان طبعاً للقضاء على الثورة المصرية المتصاعدة. وكان أول ثمار زيارة المسؤول الأمريكي تسليط البلطجية على المتظاهرين الآمنين في ميدان التحرير بغية سحقهم. وإذا لم يتسن له ذلك، فعلى الأقل يمكنه أن يؤمن خليفة لمبارك يلبي شروط ومطالب السيدين الأميركي والإسرائيلي. وأخشى ما أخشاه أن ينجح الشعب المصري حيث نجح الشعب التونسي فقط، ألا وهو التخلص من رأس النظام والإبقاء على النظام المرتبط عضوياً بتل أبيب وواشنطن. وكأنك يا أبا زيد ما غزيت.
هل يعقل أن يستبدل الشعب المصري حسني مبارك بعمر سليمان أو حتى رئيس الأركان سامي عنان الذي كان قبل اندلاع الثورة بأيام يتلقى quot;تدريباً خاصاًquot; في quot;البنتاجونquot;، ثم عاد على عجل بأمر من الأميركيين أنفسهم كي يساهم في تسلم زمام الأمور مع عمر سليمان وغيره في حال رحيل مبارك؟ تصوروا أيضاً أن الكونغرس الأمريكي تقدم بمشروع قانون ينظم نقل السلطة في مصر ضارباً عرض الحائط بالثورة المصرية الشعبية التاريخية وطموحاتها.
وحتى محمد البرادعي يجب أن يستبعده الشعب المصري تماماً، خاصة أنه ظهر في خضم الثورة على تلفزيون أمريكي ليطمئن الأمريكيين بأن مصر لن تخرج من تحت عباءتهم.
باختصار، فإن الثورات العربية في مصر وتونس والقادم منها لن تكون ثورات حقيقة إلا إذا أيقن ثوراها بأنهم اجتثوا العميل والكفيل معاً، ولم يستبدلوا شهاب الدين بأخيه.
التعليقات