السيد ولد أباه
تساءل الكثيرون عن هوية quot;الثوار الجددquot; الذين يجتاحون في أيامنا الشوارع العربية، في أخطر وأعمق حركات احتجاجية عرفتها البلدان العربية منذ أيام حركات التحرر والمقاومة في العهود الاستعمارية.
في تونس، فاجأت الحركة الاحتجاجية التي أسقطت نظام quot;بن عليquot; الأجهزة المخابراتية والدبلوماسية ومراكز الاستشراف والدراسات العالمية والتنظيمات السياسية نفسها التي لحقت بالديناميكية في لحظاتها الحاسمة الأخيرة.
لا يبدو أن تركيبة quot;ثوار ميدان التحريرquot; بالقاهرة تختلف نوعياً عن تركيبة quot;ثوار ميدان القصبةquot; بتونس. فمن الخلف اختزال هذه التركيبة في تلوينات إيديولوجية بعينها، كما أن إطلاق تسمية quot;شباب الفيس بوكquot; على هذه الحركية فيه كثير من التبسيط الاستعراضي ينم عن العجز عن إدراك الخلفيات العميقة للديناميكية الاحتجاجية الجديدة بتحميل الوسائط الإلكترونية والفضائية دوراً مبالغاً فيه، في حين أنها مجرد وسائل عملية فاعلة استخدمت بنجاعة.
عرف عدد من البلدان العربية في العقدين الأخيرين انتفاضات الاحتجاج على الغلاء وارتفاع الأسعار التي سميت quot;بانتفاضات الخبزquot;، وكانت في مجملها انعكاساً للسياسات الليبرالية الجديدة التي قلصت السياسات الرعوية الإدماجية للدولة وألغت الدعم عن المواد الحيوية الأساسية، في سياق أزمات اجتماعية خانقة.
بيد أن تلك الانتفاضات افتقدت لأي أفق سياسي، وإنْ انجرت عنها في بعض الأحيان تحولات جوهرية، كما هو الشأن في تونس (انتفاضة 1984) وفي الجزائر (انتفاضة 1988).
عكست quot;انتفاضات الخبزquot; حالة الضعف والتآكل التي مست التنظيمات السياسية والنقابية العربية، التي بدت في حالة انفصام مع ديناميكية الشارع المنفلتة عن كل تأطير وتنظيم. ولقد ارتبط هذا التحول بعاملين أساسيين، متمايزين هما:
انحسار أفق التغيير الراديكالي في الخطاب السياسي للنخب العربية، التي غيرت في الغالب استراتيجياتها التعبوية والنضالية من سردية الثورة إلى هدف الإصلاح المتدرج والتسويات المرحلية، مما سمح لأنظمة الحكم غالباً بامتصاص الحركية الاحتجاجية التقليدية إما من داخل تركيبة الحكم أو من داخل حقل التعددية السياسية، الذي وفر للطبقة السياسية في عمومها -على الرغم من القيود المضروبة عليه -رهانات تنافس وتموقع متعددة الأوجه والنتائج لا تنحصر في الاستحقاقات الانتخابية.
-انهيار القاعدة الاقتصادية المتشكلة أساساً من البنية الصناعية الناشئة الموروثة جزئياً من العهد الاستعماري والمتكونة غالباً من المنشآت العمومية، التي أقامتها الدولة التحديثية. ولهذا الانهيار أسباب عديدة، من بينها ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية (الخصخصة العشوائية بضغط من المؤسسات المالية الدولية)، ومنها ما يتعلق بانعكاسات العولمة التي قوضت منطق السيادة الاقتصادية.
والنتيجة الأساسية لهذين التحولين هي تغير نموذج quot;الفاعل الاحتجاجيquot;، الذي لم يعد المناضل الحزبي ولا النقابي، ولا أي من quot;الأشخاص المفهوميينquot; المنتمين للوسائط المنظمة في النسيج الاجتماعي.
الثائر الجديد هو قبل كل شيء ذو فردية مستقلة ومتميزة تجسد تفكك وتجزؤ النسق الاجتماعي العربي، ترتبط بغيرها من الذوات عبر شبكات مرنة مؤقتة، لا مركز لها ولا قيادة. ومن ثم لا معنى للتساؤل عن قيادات الحركات الاحتجاجية الأخيرة، فمن شأن quot;الجمهورquot; (بلغة سبينوزا ) أنه ائتلاف عفوي لا يستقيم مع منطق السيادة والتمثيل الذي يميز مفهوم quot;الشعبquot; كمجموعة سياسية منظمة ومنسجمة.
وإذا تحول الجمهور إلى شعب، فقد انتقل من المنطق الثوري إلى منطق التنظيم السياسي (الدولة). ولذا لا معنى للرهان على الجمهور كحالة سياسية مستقرة، بل هو في الواقع حالة ما قبل سياسية، ومن هنا سمته الملتبسة الثرية بصفته سلطة مؤسسة على حافة الشرعية: فهو خارج الشرعية بمنطقه الاحتجاجي الراديكالي وهو في الآن نفسه شرط تجديد الشرعية، بما أن كل شرعية تتولد ضرورة عن فعل تكويني أصلي سابقا عليها.
وعلى عكس ما يعتقد، ليس الثائر الجديد إفرازاً للتحولات التقنية الاتصالية الجديدة (الإنترنت)، بل إن الشبكات الافتراضية والمنتديات الاجتماعية وفرت الحاضنة الملائمة للجمهور المتمرد. فإذا كانت الصحافة المكتوبة قد سمحت من قبل ndash; كما يقول بول فريليو ndash; بتنميط الآراء، فان التقنيات الاتصالية الجديدة أفضت إلى quot;تزامنية المشاعرquot;. فبعد ائتلافية المصالح التي ارتبطت بنظام الطبقات الاجتماعية في العصر الصناعي الأول، ها هي ائتلافية الأهواء والأحاسيس التي وفرت للحركات الاحتجاجية فاعلية لا محدودة. فلم يعد الرأي العام بحاجة في أشكاله التعبيرية والتنظيمية للوسائط التقليدية، بل وفرت له الفضاءات الاجتماعية المتقاسمة فسحة مرنة تتناسب ووتيرة الإيقاع السياسي السريع.
ليس الفاعل الاحتجاجي الجديد -على عكس ما يعتقد ndash;العامل المفصول عن العمل أو المهمش المقصي من ساكنة الأحياء القصديرية الفقيرة، ولا هو يعبر عن مطالب اقتصادية صرفة، حتى ولو كانت هذه النماذج شاركت فعلًا في الثورات الأخيرة، وإنْ لم تكن وقودها ولا طليعتها.
رهان الحركات الاحتجاجية هو إنتاج صيغ عيش جديدة والخروج من منطق القمع والوصاية، وتأكيد قيم الحرية الفردية والفاعلية الإنسانية في مجتمعات متكلسة تضيق فيها فرص الاندماج الجماعي والإبداع الفردي والتداول على السلطة. وتدخل المطالب السياسية نفسها في هذا المنطق، باعتبار كونها تتجاوز التسيير الديمقراطي للحقل السياسي. ومن هنا ندرك أن هذه الثورات الشبابية العصية على الاستيعاب الإيديولوجي، تنضح بالمثل الليبرالية الحالمة، وتجسد حالة الانفصام العميقة بين الطبقة السياسية والأجيال الصاعدة في العالم العربي.
وليست الأدوات الاحتجاجية الجديدة إلا التعبير الواضح عن هذه السمات المذكورة. لا فرق هنا بين منطق الانتحار بالاحتراق والاحتشاد الاحتفائي في الميادين العامة، كلاهما استخدام ناجع لسلاح الجسد في فظاعته التعبيرية المؤلمة (الاحتراق) ومتعته الاحتفالية (التكشف والغناء الشعاراتي.) .الجسد هنا محمل بقدرات ائتلافية ترابطية، لا تحتاج لخطابة السياسيين والدعاة والحكماء. ومن هنا المصاعب الجمة لصياغة مطالب الشباب الثائر في مشاريع سياسية أو رؤى إيديولوجية منسجمة.
سئل الشاب التونسي بعد سقوط بن علي quot;ماذا تريد من ثورتك؟quot; فأجاب دون تردد quot;أن اصرخ فقط دون خوفquot;.
التعليقات