محمد عبدالله محمد

في حوار افتراضي يسأل زين العابدين بن علي مستشاريه: مَنْ تسبَّب في كلّ ما جرى بتونس الخضراء؟ مَنْ المُلام؟ يُجيبُه أحدهم بأن امرأة عزباء تُدعَى فادية حمدي (35 عاماً) وتعمل laquo;مُراقِبة عُون ترتيبraquo; ببلدية سيدي بوزيد هي السَّبب في كلّ ما جرى. فهي التي صادرت عربة الخضار العائدة لـ محمد بوعزيزي، الذي وعندما اعترض عليها صفعته على وجهه، وعندما لَحِقَها إلى مقَرّ البلدية ليشكوها رُدَّ طلبه، فخرج صارخاً كالمَقْمَاقِيْن من شِدَّة الغيظ، قبل أن يسكب بنزيناً على جسده ويتفحَّم. كان ذلك في السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول العام 2011 الماضي.

قال له آخر: لا... فالسبب قد يكون ليس في فادية حمدي وحدها ولا في مساعِدَيْها اللذان رَكَلا البوعزيزي وأسالا الدم من أنفه، بل إن الكاتب العام بالبلدية متورّط أيضاً. فالأخير كان بإمكانه أن لا يَرُدّ طلب البوعزيزي في الشِّكاية على الشّرطيّة التي صفعته أمام الملأ وأن لا يُخاطبه متهكماً بعبارة laquo;يا مسخ متكلمنيشraquo; ليستفزّه أكثر ويتركه عُرضة للهستيريا والقوة الغضبية التي تحيله (عندما لا يجد متنفسه في التعبير والانتصاف لحقه المغصوب) إلى اللجوء للمعالجات غير المُسيطَر عليها.

قال له آخر: قد لا يكون السبب فقط في الشّرطيّة والكاتب العام بالبلدية، حيث كان بإمكان إدارة البلدية أن لا تترك أسطوانات الحريق في ردهات المبنى فارغة، ولو كانت غير ذلك لأمكن سحب مسمار الأمان من الأسطوانة وتوجيه البودرة الجافة التي بداخلها نحو جسد محمد البوعزيزي لعزل الأوكسجين من عليه وتغليف اللهب وعزله عن الوقود المشتعل ومنع الأوكسجين من الوصول إلى النار مرة أخرى وتقليل تدفق البُخَار من الوقود وامتصاص حرارة الجسم وخفض درجته من على جسد البوعزيزي وبذلك يُمكن أن يساعد في إنقاذ حياته.

قال له مستشار آخر: بأن المشكلة تكمن في منع الشرطة التونسية موكب تشييع جثمان البوعزيزي من المُرور من أمام مقر المحافظة بسيدي بوزيد (265 كلم جنوب العاصمة تونس). حيث كان بالإمكان ترك عائلة الفقيد (بغرض التنفيس) تستلم جثة ابنها منذ مساء الثلثاء الخامس من يناير من مستشفى الإصابات والحروق البليغة في مدينة بن عروس في الجنوب التونسي لنقله إلى مسقط رأسه في مدينه سيدي بوزيد ودفنه دون الحاجة إلى اتخاذ إجراءات أمنية مُشدَّدة تنكأ جروح المكلومين أكثر وتجعلهم يتخلّصون من احترامهم للموت وبخس الحياة فيندفعون بلا شعور نحو التظاهر واللجوء للقصاص من خصومهم كيفما اتفق.

مستشار آخر قال: المشكلة هي في الجنرال علي السرياطي قائد الأمن الرئاسي الذي أعطى الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين وسط مدينة تالا (وسط غرب تونس) فقتِل خمسة وعشرون شخصاً وأصيب ستة بجروح خطيرة، وهي أحداث أجَّجت من الوضع الأمني في عُموم المدن الولايات التونسية، وجعلت من عربة العنف والتظاهر تسير بلا فرامل.

آخر الآراء كانت تقول لـ بن علي: إن الخطأ كان في تحرشّ الرئيس بالجيش (الذي ظلّ على الحياد في السياسة منذ العام 1957) حين هَمَّ زين العابدين بن علي بعزل الجنرال رشيد بن عمَّار قائد القوات البرية ووضعه تحت الإقامة الجبرية بعد رفض الأخير دَفع الجيش نحو الاصطدام بالمتظاهرين وإطلاق الرصاص عليهم. ولأن التراتبية العسكرية المُحكَمة تتطلب انصياع المأمور للآمر المباشر، فقد كان نفوذ الجنرال عمّار واضحاً داخل صفوف الفرق العسكرية التابعة له وفي عموم الجيش الأمر الذي مكّنه من تسريح الرئيس نفسه وإجباره على المغادرة.

كل تلك الآراء (المفتَرَضَة) كانت تنتِف قشور الأزمة السياسية في تونس لسؤال بن علي. ولم تمس أصل الإشكال الذي كان وبُنِيَ عليه. لم يَقُل له أحد أن العقد الاجتماعي بين السلطة والناس القائم على معادلة تأمين الوظائف والأكل للناس في مقابل غضِّهم البصر عن الحقوق السياسية ليس له ضامن؛ لأن هذه المعادلة قائمة على ضمانة عالمية وليس محليّة، فنسى النظام أنه وحين يُصاب العالَم بكساد ومرض اقتصادي (كالذي جرى في العام 2008 ولغاية اليوم) فإن الدول الرخوة عادة ما تتأثر، فتتأثر بذلك خدماتها الريعية. أما حين يتم تكريس الحقوق السياسية فإن ذلك يُعتبر قيمة ذاتية ومعنوية لا مجال للعب عليها، بل هي ليست صالِحة للعَرض والطلب والتثمير السياسي من الخارج حتى ولو كان العالَم كُلّه يترنّح.

كما لم يقل له أحد إن توسُّع جهاز الأمن في قِبال الجيش وبشكل غير متوازٍ هو خطأ. وإن إقامة جهاز أمن رئاسي خاص قوامه عدّة آلاف وله ترسانة ثقيلة وموازياً للأمن العام والجيش معاً وله امتيازات تزيد بعشرين مرّة عنهما هو خطأ أيضاً. وإن ما تعلَّمته يا بن علي من أوروبا الشرقية عندما كنتَ سفيراً في بولندا لا يصلح لتونس أبداً، بل إن ثلاثين ألف عنصر رئاسي كانوا يحرسون مقر إقامة الزعيم الروماني الشيوعي نيكولاي تشاوشيسكو في بوخارست لم يستطيعوا أن يحموه من السقوط ثم تنفيذ حكم الإعدام بحقه في ديسمبر من العام 1989.

كما لم يقل له أحد بأن التعليم والنظام الصحي ليسا وحدهما المنتِجَيْن للطبقة الوسطى؛ لأن هذه الطبقة تتكوّن نتيجة تدافع أبعاد ثقافية واجتماعية، وأبعاد تتعلق بالتاريخ واكتشاف الذات بتركها تتحدث مع نفسها ومع الآخر وتُعارض نموذجاً وتؤيّد آخر، وتتحالف وتتعارض وتتفق وتختلف وتَقلَق وتُقلِق بحراكها السلمي مشاريع متقابلة. والأكثر هو إحساسها بأنها هي المسئولة عن الدولة بل وتُفكّر من أجلها وقبلها، وما الأخيرة سوى صيغة تنفيذ تُسيّر الأمور الحياتية ومُتطلباتها بشكل وظيفي، ومن دونها تصبح كياناً أجوفاً لا يُغني ولا يُسمن من جوع، وأن المجموع بعقله وجسده لا يتشكّل إلاّ من الأفراد.

أخلُصُ إلى نتيجة صرت أعتقد بها يوماً بعد يوم، وهي أن نظام الرئيس بن علي لو اهتمّ بالحريات وتَرَكَ مراوحَ للتعبير والتنفيس وقَلّل من قبضة الأمن ومَنَحَ السلطة تداولاً تشريعياً وتنفيذياً لتكامَل ذلك مع مشروع تونس المدني التنموي الناهِض، بل لَعَبَده التونسيون واعتبروه رمزاً، لكن الخطأ هو فيما لم يَكُن، وما مماسات البشر إلاّ دروس وعِبَر على الجميع أن يستفيد منها، والسعيد مَنْ وُعِظَ بغَيرِه