عبدالله ناصر العتيبي


يبدو أن رئيس البرلمان الإيراني السيد علي لاريجاني يريد أن يوجه الوضع في إيران إلى فضاءات جديدة من خلال تصريحاته الأخيرة المتعلقة بمسألة التقارب السعودي - الإيراني. لاريجاني الذي هاجم السعودية قبل أشهر واتهمها بسحق laquo;المسلمينraquo; في اليمن بمساعدة أميركية، عاد قبل خمسة أيام إلى مغازلتها والتذكير بأهمية دورها الإقليمي ومكانتها الكبيرة في العالم الإسلامي، ودعا إلى العمل على تعزيز العلاقات معها من خلال توافر laquo;النيات الحسنةraquo; لإعادتها إلى طبيعتها الإيجابية، معرباً عن أسفه لوجود بعض الخلافات التي تشكل غشاوة في تاريخ العلاقات بين البلدين.

هذا التحول المفاجئ في طريقة التعاطي الإيرانية مع الأحداث والمواقف والأوضاع في المنطقة لا يخرج عن ثلاثة احتمالات، إما أن السيد لاريجاني شعر بالفعل أن طهران أخذت العلاقة السعودية - الإيرانية إلى مناطق وعرة وغير صالحة للتواصل، وبات عليها الآن أن تعالج الخطأ ببناء علاقة نموذجية ونظيفة مع الرياض، وإما أنه يظن أن السعودية مهمة إقليمياً لكنها تمارس أدواراً لا تتناسب مع أهميتها، وهو بهذه الدعوة إلى المصالحة يريد أن يعود بالرياض إلى منطقة laquo;الصحraquo; من وجهة النظر الإيرانية، وإما أنه يسعى إلى استغلال علاقة إيران الجديدة المفترضة laquo;النفعيةraquo; مع السعودية للخروج من نفق الأزمة التي تكاد تقتلع رياحها أطناب البيت الآياتي الإيراني.

إيران هذه الأيام تعيش حالة من عدم الاتزان، ويظهر ذلك جلياً في تصاريح قادتها الأخيرة، فمن التبشير بسيطرة مطلقة على الفضاء عام 2017، بحسب الرئيس محمود أحمدي نجاد، ومروراً بالشكوى التي تقدمت بها إلى الأمم المتحدة عن طريق مندوبها محمد خزاعي التي تحتج فيها بشدة على تصريحات رئيس أركان الجيوش الأميركية الأميرال مايك مولن المتعلقة بجاهزية خطط ضرب إيران عسكرياً، وليس انتهاءً بالرسالتين اللتين وجهتهما إيران إلى وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين آشتور، وإلى مدير وكالة الطاقة الذرية يوكيا أمانو، واللتين تؤسسان خطاً إيرانياً جديداً يقوم على الرغبة في استئناف المفاوضات حول مشروعها النووي، هذه الحال من عدم التوازن تثبت لمتابعي الشأن الإيراني أن العقوبات بدأت في الضرب عميقاً في أرض فارس، وما الإضراب الذي قام به بعض التجار في طهران أواخر شهر آب (أغسطس) الماضي إلا أحد المؤشرات التي بدأت تظهر على السطح عن تأثير الحصار الدولي، ومن المتوقع أن تدور عجلة المؤشرات خلال الأشهر القليلة المقبلة في شكل يفضح الصمت والتعتيم الإعلامي الإيراني.

إيران laquo;الحكومةraquo; تستطيع أن تتحمل أنواعاً كثيرة من الضغوط الخارجية إذا ما استثنينا تلك المتعلقة بعمل عسكري، فخبرتها في مواجهة الضغوطات الدولية كبيرة وواسعة وتتناسب مع الجهود الكبيرة التي بذلتها وتبذلها منذ العام 1979 في تأصيل وجودها على خريطة الديبلوماسية العالمية، لكن على الطرف الآخر، هي ضعيفة جداً في مواجهة الضغط الداخلي أياً كان نوعه ومصدره، فهي وإن كانت نجحت في لعبة الركض والاختفاء للتغلب على ضغط ما بعد انتخابات يونيو 2009، فإنها لا تستطيع الاستمرار في الصمود إذا ما ترافق هذا الضغط مع ضغوطات التجار الذين هم في العادة أصحاب النفوذ الأقوى بعد رجال الدين.

على إيران إذن أن تبحث عن أخشاب نجاة في هذا البحر المتلاطم، لذلك فإن دعوتها للمصالحة مع الرياض ليست إلا تكتيكاً laquo;وقتياًraquo; يتناسب مع المرحلة، فهي تعرف - كاحتمال ثالث لتصريحات لاريجاني - أن نفوذ الرياض لدى واشنطن يمكن أن يسهم في تمزيق خطط رئيس أركان الجيوش الأميركية أولاً، ومن ثم رفع الحصارين الاقتصادي والعسكري في مرحلة تالية. يؤمن الإيرانيون بالبراجماتية السياسية، فلا بأس إذن من أن laquo;يتبرجمواraquo; من أجل الإبقاء على ثورتهم السيادينية، لكن السعوديين في المقابل قادرون على استعادة التاريخ مجدداً ليستحضروا أمام أعينهم مرحلة التقارب التي حدثت بين طهران والرياض في بداية تسعينات القرن الماضي، التي لم تلبث أن انهارت من دون أن تنجح في أن تُنسي الإيرانيين ما حدث لحجاجهم في العام 1987 حتى وإن تظاهروا بنسيانه، فها هو المتبرجم نفسه لاريجاني يقول في أحد تصاريحه غير البعيدة بأن مقتل الحجاج الإيرانيين في مكة لن يغيب عن بال الشعب الإيراني أبداً، في الوقت الذي نسي فيه السعوديون في تلك المرحلة وما تلاها المآسي التي خلفها الإيرانيون في مكة ما أن قرروا فتح صفحة جديدة في العلاقات مع طهران.

السعوديون باتوا على دراية كاملة بالسلوك الإيراني، لذلك أظن أن مثل هذه النوعية من التصريحات لم تعد تجدي في الوقت الراهن، ولم يعد لها أنصار في الأوساط السعودية.

الاحتمال الأول لتصريح لاريجاني والمتمثل في أن إيران أدركت أخيراً أنها تبحر عكس التيار في علاقتها مع السعودية، يتطلب من الرياض أن تضع على الطاولة حزمة من المطالب قبل القبول بمصافحة اليد الإيرانية في الطريق إلى علاقة نموذجية ونظيفة. أول هذه الحزم، هو الكف عن دعم laquo;حزب اللهraquo; بالمال والسلاح، واعتبار الشأن الداخلي اللبناني منطقة خاصة باللبنانيين، واعتذار لاريجاني نفسه عن تصريح سابق يقول فيه laquo;إن إيران تفتخر بدعمها لحزب الله وتعتبره قوة مقتدرة تتبنى الفكر الإسلامي الأصيل، ألا وهو الجهاد!!raquo;. على إيران أن تفعل ذلك أو أن تتخيل فقط تياراً سنياً لبنانياً يبذل الدعمين المادي والعسكري للجماعات السنية المتمردة في إيران غرباً وشرقاً، بحجة أنها تتبنى الفكر الإسلامي الأصيل المتمثل في الجهاد! ولا بأس أيضاً أن تتخيل مجموعة من المارونيين اللبنانيين يقدمون الدعم للأقلية المسيحية الفارسية من أجل إعادة دور صغير من أدوارها المفقودة في صحراء الثورة الخمينية!

وثاني الحُزُم، هو إعلان إيران بأن الحوثيين في اليمن ما هم إلا مجموعة متمردة، خارجة عن الشرعية والقانون، والاعتذار أيضاً عن تصريحات لاريجاني أيضاً التي هاجمت السعودية قبل أشهر بحجة أنها تسحق المسلمين الحوثيين في اليمن. عليها أن تفعل ذلك، أو أن تتخيل الحكومة اليمنية تطلق التصريح تلو التصريح عن المظلومية التي يعيشها البلوش وعرب الأحواز في إيران!

وثالث الحزم، عدم تدخل طهران في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة والكف عن تقوية بعض الأطراف التي لا تريد بالشعب العراقي خيراً، والسماح للكتل والأطياف العراقية كافة بأخذ موقعها التنافسي على الأرض العراقية في شكل حر ومسؤول.

ورابع الحزم، إعادة الجزر الإماراتية المحتلة laquo;الطنبات الثلاثraquo; إلى الإمارات، أو الموافقة على اللجوء إلى المحكمة الدولية.

وخامسها، تقديم ضمانات تعزز الثقة لدى الرياض بأن البرنامج النووي الإيراني مخصص بالكامل للأغراض السلمية.

الموافقة الإيرانية على النظر، ومن ثم إيجاد الحلول لهذه المطالب الخمسة، تثبت أن لدى الإيرانيين laquo;نية حسنةraquo;، كما قال لاريجاني في تصريح المغازلة الجديد، وإلا فإن هذا يقودنا إلى الاحتمال الثاني والمتمثل في أن طهران تريد أن تهدي الرياض لطريق الحق، وهذا وحده كافٍ لأن أختم مقالي.