لندن

أخطأت بريطانيا والغرب عموما في الكثير من أولوياتهما في العالم العربي ـ هذا ما قاله رئيس الوزراء البريطاني في كلمته أمام مجلس الأمة الكويتي في الأسبوع الماضي.
كان من الخطأ دعمنا لأنظمة قمعية وغير ديمقراطية، أملا بأن يكون في ذلك خدمة أفضل لمصالحنا: 'حرمان الشعب من حقوقه الأساسية لا يحفظ الاستقرار، بل يؤدي إلى العكس'.
إن الأحداث التي جرت في تونس ومصر وليبيا وغيرها من الدول، لم تكن بمثابة زلزال هز المنطقة وحسب، بل كانت زلزالا هز نظرة العالم الخارجي تجاه العالم العربي. والجميع منا يتعاطف مع المطالب التي نادى بها هؤلاء الشباب الشجعان، من حريةٍ وحقوق ديمقراطية وتغيير وتعددية سياسية. وقد قرأت بكثير من الاهتمام مقالات صحيفة 'القدس العربي' اللندنية، وهي صحيفة لطالما ناصرت مكافحة الفساد والاستبداد.
إننا نؤازر حاليا شعب ليبيا العازم على التغيير، الذي يواجه غضب وسخط نظام دموي انتقامي.. إن القرارات الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان ومجلس الأمن الدوليين تبعث رسالة واضحة بأن العالم يقف إلى جانب الشعب الليبي، وأن العدالة سوف تتحقق وسيُحاسَب كل مسؤول عن الجرائم المرتكبة ضد الشعب الليبي. أما الإجراءات العقابية، من قبيل تجميد الأموال والأملاك ومنع السفر والحظر على مبيعات الأسلحة، فتستهدف القذافي وزبانيته مباشرة، وترمي إلى زيادة الضغوط على نظامه إلى أقصى حد ممكن، وإجباره على التنحي بسرعة لإتاحة الفرصة للشعب الليبي لبناء بلده بعد 42 عاما من الدكتاتورية الوحشية والقمعية.
وهكذا فإن دعم الغرب في السابق للوضع القائم عاد بنتائج عكسية، حيث ان غض النظر عن الأنظمة القمعية لم يخدم مصالحنا. فما نتج عن تلك الأنظمة ذاتها كان حالة من جمود الأوضاع وكراهية الغرب، بل انها غذّت التطرف نفسه الذي كان يفترض بمثل ذاك الدعم أن يتصدى له ويلجمه.
وحتى لو كان هناك في الغرب من يشعر بنوع من الحنين لأيامٍ كانت فيها مكالمة واحدة من واشنطن أو لندن أو باريس تكفي لانصياع ديكتاتوريين مأجورين في المنطقة، فإن عصر الهيمنة الغربية أو التأثير خارج الأعراف المعمول بها قد ولّى بكل تأكيد ـ بقدوم مواطنين متمكنين من حقوقهم وناشطين في أنحاء العالم العربي ـ ويجب ألا يتباكى أي منا على أطلال تلك الحقبة، بل إن علينا أن ننظر إلى علاقات متكافئة مع الحكومات التي تمثل شعوبها بالفعل، وتعمل بكل وعي على تحديد أولويات تطلعاته، ومع المؤسسات الحديثة والفعالة التي لا تكتفي بتجسيد فضائل الخدمات العامة وحسب، بل إنها تتمتع بما يكفي من الاستقلالية والصرامة لتحاسب قيادتها. هذا هو الأساس الوحيد لعلاقات الصداقة المثمرة التي تنطوي على الاتصالات الدبلوماسية والتبادلات التجارية والثقافية الصريحة والشفافة والعادلة، التي تعم بفوائدها كافة الأطراف.
إن ما نشهده اليوم ما هو إلا بداية مخاض ولادة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحلة جديدة. ولا يعلم أحد علم اليقين أين ستنتهي هذه العمـــلية، أو الشكل الذي ستكون عليه المنطقــــة بعد هدوء الأوضاع ـ رغم أننا نبقى ملتزمين تمام الإلتزام بدعم كافة التحركات في اتجاه تطبيق الإصلاح ومنح المزيد من الحقوق والحريات واتباع الإدارة الرشيدة في الحكم وتوفير الفرص للجميع.
ومع طينا لصفحة علاقاتنا السابقة، فإن لدينا عمليا الكثير لنتبادله في ما بيننا، وذلك من خلال العمل مع حكومات تتبنى الإصلاح وتلتزم بمصالح شعوبها، ومع مجتمعات مدنية فعالة ومتمكنة بحقوقها. وقد أعلن وزير الخارجية مؤخرا عن تأسيس صندوق الشراكة العربية، بالتعاون مع شركاء بريطانيا من دول المنطقة والعالم، دعما للإصلاحات التي تحتاج إليها دول المنطقة من أجل تحقيق مستقبل مستقر ومزدهر، وبالبناء على التقاليد البريطانية لانبثاق مجتمع مدني قوي، والتمتع بحرية التعبير ومؤسسات ديمقراطية، وروابط تاريخية فريدة مع الكثير من دول المنطقة.
لكن، وفي الوقت ذاته، يجب ألا تسمح لنا هذه الأحداث المزلزلة بأن ننسى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، حيث ان بريطانيا مستمرة في التزامها بوضع هذه القضية في قمة أولوياتها، والسعي إلى إجماع في المنطقة لضمان ألا يؤدي هذا الصراع، الذي هو بمثابة الجرح الدامي منذ عقود في قلب المنطقة، إلى تقويض فرصة تحقيق مستقبل أفضل وأكثر إشراقا كالذي بدأ بزوغ فجره أمام الشعوب في تونس ومصر وغيرهما.
يجب ألا تتراجع 'الديمقراطيات القديمة' في أوروبا عن دعمها لبوادر الحرية التي بدأت بالظهور في منطقة البحر الأبيض المتوسط. إننا ندعم تطلعاتكم، ونحيي الشباب الشجعان في أنحاء المنطقة، الذين رفضوا ما هو غير مقبول، وبالتالي تجرأوا بأن يحلموا بما كان ضربا من المستحيل، ثم خرجوا لتحويله إلى حقيقة.