عبد الوهاب بدرخان

أواخر 2006 شاهد معمر القذافي صدّام حسين وهو يشنق فقرر استدعاء الأميركيين ليحمِّلوا كامل quot;برنامجه النوويquot; وأوعز بالإسراع في إتمام صفقة التعويضات لذوي ضحايا تفجير الطائرة الأميركية فوق لوكربي. كانت المتاعب العراقية للأميركيين قد بدأت، لكن الزعيم الليبي لم يرد المجازفة والانتظار، فهو يسعى منذ عقد ونصف العقد للخروج من quot;حصار لوكربيquot;، ثم إنه كان يعلم جيداً أن ما اعتبر برنامجاً نوويّاً ليبيّاً لم يكن سوى كومة من الخردوات.

بعد استسلامه المبرمج لواشنطن راح العقيد يقوى، تحسنت سمعته وازداد الإقبال الغربي عليه، استبدل زعامة إفريقية بتلك العربية التي ظلت تعصى عليه، حتى أنه بدا في الأعوام الأخيرة كمن يتمتع بمرحلة استقرار وثقة لم يشهدها طوال العقود الثلاثة السابقة التي أمضاها في السلطة. اعتقد أن النجاح في إطلاق عبدالباسط المقرحي من سجنه الإسكتلندي، وإدارته لقضية الممرضات البلغاريات، وصفقته مع برلسكوني لتصفية أثر الاستعمار الإيطالي، وكذلك غضبته على سويسرا وإذلاله لرئيسها، جعلت منه فعلاً نوعاً من quot;ملك الملوكquot;. لكن المعاملة التي لقيها في نيويورك، حين قصدها عام 2009 لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة للمرة الأولى، أعادته إلى الواقع، إلى حجمه الحقيقي.

عمليّاً، كان قد بدأ يضعف، إذ بنى كل ما اعتقده قوة على صراعه مع أميركا والغرب، وحين راح ينفتح بدأ ينفضح. فالقوة التي امتلكها دائماً هي مال النفط، وبواسطة هذا المال صنع أوهام العظمة التي جنَّد لها أجهزة أمنية عاتية كانت لها مهمة واحدة أساسية: إدامة الصمت الداخلي. ومع الانفتاح وظَّف القذافي نجله سيف الإسلام في تمثيل خديعة الإصلاح، لعلها تبدو مفيدة في بعض الأوقات أقلَّه للرد على انتقادات خارجية كانت أحياناً تزعج بعض مسارات quot;البزنسquot;، على رغم أن أي دولة كبرى تدعي المبادئ والدفاع عن الحريات لم توقف أي صفقة مشترطة احترام حقوق الإنسان. وكل ما كان الابن سيف يوحي بأنه في صدد إنجازه كان الأب يتولى هدمه بلمحة بصر. قيل إن quot;الحرس القديمquot; للنظام وضع العراقيل أمامه ليتبين الآن، كما دائماً، أنها إرادة الأب ولا أحد سواه.

بعد أيام من اندلاع الثورة الشعبية بدا أن الولايات المتحدة ضعفت أيضاً، أو أن لديها والعديد من الدول الغربية ضعفاً تجاه نظام انخرطت معه بعقود عمل ومصالح. ولذلك فهي تقارب مسائل التدخل أو فرض حظر جوي بحساسية وحذر بالغين. لا تزال التجربة العراقية في الأذهان، ولا أحد يرغب في تكرارها. لم تكن الحرب الأهلية متوقعة في العراق، ثم إنها انتظرت شهوراً قبل أن تصبح واقعاً يوميّاً معيشاً. أما الآن فإن القذافي وأنجاله استدعوا هذه الحرب وسعوا إليها، ولم يرد في أذهانهم أبداً احتمال التفاوض والتفاهم مع الشعب. فمنذ إطلالته الأولى على التلفزيون الحكومي خلع سيف ثوبه الإصلاحي وخاطب أبناء البلد بالعجرفة والتهديد. وبعد يومين ظهر والده لينعتهم بأقذع الأوصاف. ليس لديه سوى التوبيخ والاحتقار والوعيد للتعامل معهم. وهذا في حد ذاته شكل مؤشر الخسارة والأفول. لم يعد قادراً على ترويج أوهامه، لكنه سيواصل بثها.

في الأسبوع الثاني للثورة حرصت القيادة في طرابلس على استقدام إعلاميين من الخارج quot;لإظهار الحقائقquot;. ووجد الإعلاميون أنفسهم، كما هي العادة مع تغيير طفيف، محوطين بالمرافقين، ومعوّلين عليهم في تحركاتهم. لكنهم أدركوا أن الحدث، حتى الآن ليس في العاصمة حيث دعوا إلى quot;تغطيةquot; التظاهرات المؤيدة لـquot;الأخ القائدquot; الذي حجز إمكان لقائه للأجانب حصريّاً، لكنه أصر خلال لقائه مع ثلاثة منهم على القول: quot;لا تظاهرات، فقط الذين يحبونني يتظاهرونquot;. وماذا عن تظاهرات الشرق؟ الجواب جاهز: إنها quot;القاعدةquot;. هذا ما أراد للغرب أن يعرفه ويصدقه. والجواب الآخر الجاهز هو: ليس لديّ منصب لأتنحى عنه، أنتم لا تفهمون نظامنا... لم يكن مفيداً الاستمرار في الجدل، طالما أن صاحب السلطة ينكرها وليس لديه سوى الغموض والتخيلات يصدّقها ويريد للعالم أن يصدقها.

ظنت القيادة أنها، باستقدامها الإعلاميين، تستطيع أن تبرهن ثبات سيطرتها، وبالتالي تخيير القوى الدولية بين مد اليد إلى القذافي ومدّها إلى خصومه. لكن ما استطاع الإعلاميون نقله هو نفسه ما كان معلوماً قبل وصولهم، فالقذافي ذاهب إلى حرب أهلية لتطويع الشعب واستعادة السلطة على كامل ليبيا، وليس وارداً عنده البحث في عروض الرحيل التي سربت إليه. الأزمة في ليبيا دخلت مرحلتها الأكثر صعوبة ودموية.