برنارد هايكل

أظهرت الفوضى في ليبيا مدى اعتماد بقية العالم على المصير السياسي لمجتمعات الشرق الأوسط، فإذا انتشرت الفوضى على غرار ما يحدث في ليبيا إلى بلدان الخليج العربي، على سبيل المثال، فإن العالم قد يتوقف عن الدوران حرفيا، وذلك نظراً لكميات النفط الهائلة التي تصدرها هذه البلدان إلى بقية العالم.

لقد دخل العالم العربي إلى الفترة الأكثر دراماتيكية في تاريخه الحديث، فالآن تسقط الأنظمة القَمعية وتُكتَسَح أمام الشعوب العربية التي بدأت تأخذ مصائرها بأيديها، ولكن هذه اللحظة الانفعالية المتوقدة لا تنبئنا بما قد يخبئه المستقبل، ففي أحسن الأحوال، لايزال الطريق إلى الديمقراطية طويلا: فالمؤسسة العسكرية لاتزال تهيمن على الساحة في مصر وتونس، وفي ليبيا واليمن بدأت القوى القَبَلية تلقي بظلها الثقيل، ومن المرجح أن تهيمن الانقسامات الطائفة بين السُنّة والشيعة على السياسة في البحرين، كما يحدث في العراق منذ عام 2003.

لن نجد سرداً واحداً يفسر كل هذا، فإن الأنظمة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، والولايات المتحدة، والحكومات الأوروبية، فضلاً عن القاعدة وغيرها من التنظيمات الإسلامية، تبذل جميعها قصارى جهدها في محاولة لفهم ما قد تأتي به الأيام المقبلة.

والآن يعترف الباحثون في شؤون المنطقة، من أمثالي، بأن فهمنا للسياسة العربية لم يؤهلنا لتوقع هذه الموجة من الاحتجاجات الناجحة، فإلى أن اندلعت انتفاضة تونس كنا نتصور أن أي تغيير سياسي في المنطقة إما أن تقوده قوى إسلامية وإما يأتي في هيئة انقلاب تقوم به مجموعة من الضباط العسكريين، ولكن ليس بواسطة حشود غير منظمة يتقدمها الشباب.

إن التضخم الديموغرافي لشريحة عريضة من السكان الشباب في الشرق الأوسط أمر معلوم للجميع، ولكن أحداً لم يتوقع أن أفراد هذه الشريحة قادرون على تعبئة الوسائل الإعلامية الاجتماعية والهواتف المحمولة لإسقاط طغاة راسخين، فقد كان من المتصور أن تكنولوجيا الإنترنت تعمل على تفتيت القوى الاجتماعية بدلاً من توحيدها في قضية مشتركة، وكنا نرى أن الأنظمة الحاكمة في المنطقة أكثر وحشية من أن تسقط من دون قتال، كما تثبت الأحداث المأساوية الجارية الآن في ليبيا.

وحتى تنظيم القاعدة، وباعترافه، أخِذ على حين غرة، ولا شك أن هذا راجع إلى أن الحجة المركزية للتنظيم كانت أن سقوط الحكومات العربية القمعية لن يتسنى إلا من خلال العنف، وفي رده على الأحداث الأخيرة، نشر أيمن الظواهري، الرجل الثاني على رأس تنظيم القاعدة، تحليلاً مضجراً أشبه بملفات الباور بوينت للقانون الدستوري والتاريخ السياسي المصري.

ومثله كمثل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك من قبله، كانت نبرة الظواهري تحمل قدراً كبيراً من التنازل والادعاء، والواقع أن محاضرته سلطت الضوء على مدى ابتعاد كبار قادة تنظيم القاعدة عن روح العصر.

بيد أن أحد منظري تنظيم القاعدة الأحدث سناً كان أكثر إقناعا، ففي رسالة مؤرخة بالسادس عشر من فبراير 2011 تحت عنوان laquo;ثورة الشعب وسقوط النظام العربي الفاسد: بداية جديدة وتحطم صنم الاستقرارraquo;، كتب ليبي أسمى نفسه عطية الله: laquo;أعترف بأن الثورة لم تكن التصور الأمثل الذي كنا نسعى إلى تجسيده... ونحن نأمل أن يكون هذا بمنزلة الخطوة الأولى نحو مستقبل أفضلraquo;.

ويزعم عطية الله أن هذه الثورات لم تسفر عن إسقاط أنظمة مثل نظام مبارك فحسب، بل إن الأهم من هذا أنها دمرت مبدأ laquo;الاستقرارraquo; الذي سمح للأنظمة والغرب باستغلال المنطقة وتوفير الأمن لإسرائيل.

وبعد اعترافه بدهشته إزاء السرعة التي تطورت بها الأحداث، ينصح عطية الله الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة بالمشاركة المتأنية المتروية مع القوى الصاعدة في هذه البلدان، وهو يزعم أن هذه هي الوسيلة الوحيدة من الناحية التكتيكية التي يستطيع تنظيم القاعدة من خلالها أن يحقق هدفه النهائي المتمثل في الاستيلاء على السلطة.

ولقد أعرب آخرون من مفكري تنظيم القاعدة عن إعجابهم بقدرة الشباب من أمثال وائل غنيم على حشد الآلاف من مواطنيه المصريين من خلال الإعراب عن رغبته المخلصة في التغيير وحبه لبلاده، وهناك بلا أدنى شك درجة من الحسد لما نجح آخرون في إنجازه، وشعور يائس بضرورة الاستفادة من هذا التغيير.

وخلافاً للانتفاضة في مصر وتونس، فإن الاقتتال الذي يدور حالياً في ليبيا يقدم لتنظيم القاعدة فرصة لتأكيد سرده الكلاسيكي عن أهمية التغيير عن طريق العنف، والأمر الأكثر إزعاجاً وإثارة للقلق هو أن العنف في ليبيا يكشف عن ملامح معينة في منطقة الشرق الأوسط، وهي الملامح التي نُسيَت بعد النجاح المسكر المبهر في تونس والقاهرة.

والأمر الأشد وضوحاً هنا هو أن التغير السياسي لن يحدث بنفس النمط في البلدان المختلفة في العالم العربي، فعلى النقيض من تونس ومصر، حيث التجانس المجتمعي النسبي، تتسم ليبيا بانقسامات قَبَلية عظيمة الأهمية، في حين تمزق الطائفية بلدانا مثل البحرين واليمن وسورية، وفي غياب المؤسسات الوطنية القوية فإن التغيير في هذه البلدان يهدد بإراقة الدماء على نطاق واسع.

فضلاً عن ذلك فإن العنف المفرط في ليبيا قد يبث الرسالة إلى شعوب أخرى في المنطقة مفادها أن ثمن التغيير أعلى من أن يتكبده أي شعب، وأن التحول السلمي نسبياً الذي شهدناه في مصر وتونس قد لا يكون قابلاً للتكرار.

وأخيرا، أظهرت الفوضى في ليبيا مدى اعتماد بقية العالم على المصير السياسي لمجتمعات الشرق الأوسط، فإذا انتشرت الفوضى على غرار ما يحدث في ليبيا إلى بلدان الخليج العربي، على سبيل المثال، فإن العالم قد يتوقف عن الدوران حرفيا، وذلك نظراً لكميات النفط الهائلة التي تصدرها هذه البلدان إلى بقية العالم.

ورغم استبعاد حدوث أمر كهذا في أي وقت قريب فإن هذا الاحتمال لابد أن يدفعنا جميعاً إلى التوقف لبرهة للتفكير المتعمق في الأمر وأن يحثنا على إيجاد السياسات الكفيلة بمساعدة العرب على انتزاع ما يستحقون من الكرامة السياسية والحكم الرشيد من خلال عملية سلمية منظمة، والبديل يتلخص في عالم نظل رهينة فيه للعلل التي تعيب المنطقة، وهو ما يشكل فرصة عظيمة لتنظيم القاعدة للتأكيد على سرده ونفوذه.

* أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون.

laquo;بروجيكت سنديكيتraquo; بالاتفاق مع laquo;الجريدةraquo;.