محمد السماك

منذ أن تفجرت أحداث الانتفاضات الشبابية في دول العالم العربي مشرقاً ومغرباً، ارتفعت علامة استفهام كبيرة حول العلاقة بين هذه الانتفاضات. هل هناك عقل مدبر؟ هل هناك يد خفية؟

كان هناك اعتقاد تبسيطي يقول إن المجتمع العربي يعتمد غالباً على نظرية المؤامرة. وهي نظرية تشكل ملجأ آمناً للعاجزين. وكان هناك تصور آخر بأن العقل العربي يعاني من ظاهرة عدم التفكير لذاته وفق نظرية المفكر شيسلو ميلوش عن العقل الأسير The Captive Mind.

غير أن ما حدث، وما يحدث قلَبَ كل هذه المفاهيم والتصورات رأساً على عقب. وبدأت عملية جديدة لدراسة ظاهرة الانتفاضات الشبابية العربية من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي.

فبعد مرور قرن تقريباً (90 عاماً) على سقوط الإمبراطورية العثمانية التي هيمنت على معظم أرجاء العالم العربي، وبعد مرور نصف قرن على سقوط الاستعمار الغربي للعالم العربي، وبعد مرور أكثر من عقد على انتهاء الحرب الباردة التي كان العالم العربي أحد مسارحها الرئيسة، وبعد سلسلة من الحروب مع إسرائيل التي لم تحرر القدس ولم تعِد للفلسطينيين حقوقهم في دولتهم، كان لابد من ولادة عالم عربي جديد.

بدأ الجنين يتكون في الأحشاء العربية تدريجيّاً وعلى مراحل:

لقد انكفأ الاستعمار الغربي المباشر، وتحول إلى هيمنة من خلال الأحلاف العسكرية، وكان أهمها حلف المعاهدة المركزية في عام 1955 الذي ضم كلاً من تركيا وإيران وباكستان والعراق. ولكن أين تقف عناصر هذا الحلف اليوم؟ صحيح أن تركيا لا تزال عضواً في حلف شمال الأطلسي ولكنها أقرب اليوم إلى الشرق الأوسط من أي وقت مضى منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية. ويعكس ذلك، التحول الذي طرأ على علاقاتها مع إسرائيل. كما يعكسه الدور -أو الأدوار- التي تقوم بها، سواء بين إيران والمجتمع الدولي على خلفية الملف النووي الإيراني، أو بين الدول العربية ذاتها (بين سوريا والعراق وبين سوريا ولبنان)، حتى أن الحدود التركية مع سوريا التي كانت مزروعة بالألغام، أصبحت حدوداً مفتوحة يمكن اجتيازها حتى من دون تأشيرة.

وكذلك تحولت باكستان من رصيد عسكري- سياسي للغرب عامة وللولايات المتحدة خاصة، إلى عبء عسكري وسياسي واقتصادي أيضاً. ولعل أكثر ما يقض مضاجع أي رئيس أميركي هو الترسانة النووية الباكستانية التي خرجت من تحت الهيمنة الأميركية لتشكل خطراً مستقبليّاً محتملاً على مصالح الولايات المتحدة وعلى أمن حلفائها وشركائها في آسيا.

أما العراق، العضو العربي الوحيد في الحلف فقد سقط مرتين. المرة الأولى بالانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة نوري السعيد، والمرة الثانية بالاجتياح العسكري الأميركي الذي أطاح بحكم صدام. فالأول كان شريكاً في حلف المعاهدة المركزية، وعاملاً على تعريبها، والثاني كان رأس الحربة في حرب الثماني سنوات على إيران التي ذهب ضحيتها أكثر من مليون قتيل. ولاشك في أن الاجتياح الأميركي للعراق الذي مرت عليه ثماني سنوات وما تسبب فيه من مجازر بشرية واقتصادية وعمرانية وسياسية يعكس عمق التحولات التي طرأت.. وتاليّاً عمق الآثار النفسية في المجتمعات العربية عامة، وفي المجتمع العراقي بصورة أخص.

وما كان لهذه التحولات أن تمر من دون أن تترك بصماتها العميقة في ثقافة الجيل الجديد من الشباب العربي الذي دفع ثمن ذلك غاليّاً على حساب حقه في التنمية والتطور.

أما المرحلة الثانية من تكوّن جنين الانتفاضات العربية، فكانت مرحلة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي -الأميركي والشيوعي- السوفييتي. فقد كانت حرب 1973 بين العرب وإسرائيل قمة من قمم هذا الصراع عندما دارت الحرب بين السلاحين السوفييتي (مع العرب)، والغربي (مع إسرائيل). وتجدد ذلك في عام 1982 عندما اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت عاصمته بيروت؛ وفي ذلك الوقت حشد الأسطول الأميركي السادس قواته أمام الشواطئ اللبنانية فيما تجمعت طائرات quot;الميغquot; الروسية في المطارات السورية استعداداً للمواجهة.

أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة التحولات الاقتصادية، وقد كانت ذروتها الأزمة العالمية التي تفجرت في الولايات المتحدة، وانطلقت منها لتوجه إلى المجتمعات العربية المستنزفة أصلاً طعنات قاتلة، تمثلت في تضخم نسبة البطالة، وفي ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونفقات المعيشة وفي ضياع المليارات من أصول الاستثمارات والودائع العربية.

صحيح أن جزءاً مهمّاً من الاقتصاد العربي تحول إلى آسيا وتحديداًَ إلى الصين والهند وماليزيا واليابان، ولكن الصحيح أيضاً أن الجزء الأكبر من الاستثمارات العربية لا يزال أسير الأسواق الأميركية والأوروبية، حيث مني بخسائر فادحة نتيجة للأزمة.

ولقد أدى ذلك إلى قيام نوع من العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة وبعض الأنظمة العربية من جهة ثانية، بحيث بدا الدفاع عن بعض هذه الأنظمة بمثابة دفاع عن المصالح الغربية، وذلك بصرف النظر عن طريقة تعامل هذه الأنظمة مع شعوبها، وبصرف النظر كذلك عن انتهاكاتها للمواثيق الدولية.

لقد كان الغرب -ولم يزل- يخاف من التطرف الإسلامي. وكان -ولا ندري إن كان لا يزال- يعتقد أنه لا يمكن مواجهة هذا التطرف إلا بأنظمة متطرفة ومتشددة في استخدام القمع والعنف. وبموجب هذه المعادلة جرى تجاوز التعديات على حقوق الإنسان في الحرية والتنمية، الأمر الذي تفجر غضباً شعبيّاً في تونس ومصر.. ليشمل العديد من الدول العربية الأخرى من المغرب حتى اليمن، مروراً بالجزائر والأردن. ولقد حاولت الأنظمة في هذه الدول تدارك ما يمكن تداركه بإدخال إصلاحات سياسية وتقديم مساعدات اجتماعية سريعة. أما ليبيا فكانت استثناء، إذ إنها، بدلاً من ذلك اعتمدت أسلوب العنف الدموي، مما أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، فكانت إدانته التاريخية في مجلس الأمن الدولي بارتكاب جرائم حرب ضد شعبه.

لقد تجمعت ثلاث صفات في حركات الانتفاضات الثورية العربية الجديدة. وهذه الصفات هي: الشباب والبطالة والغضب.

فالشباب يشكلون أكثر من 60 في المئة من الشعوب العربية. والبطالة بينهم تزيد على 25 في المئة.. أما الغضب فقد بلغ درجة الغليان. ولذلك كان ما كان.