عصام نعمان

ثورة مصر لم تتوقف، ولعلها لن تتوقف إلاّ بعد تحقيق أهدافها . بدأت كانتفاضة شبابية، ثم تحولت انتفاضةً جماهيرية، وهي الآن ثورة شعبية وفكرية مستمرة، ولن تتكامل إلاّ بتحقيق أهدافها وأبرزها ثلاثة: الديمقراطية، وكرامة الإنسان، وتحرير الإرادة والأرض .

الأهداف الثلاثة متكاملة، لكن ليس بالضرورة متزامنة . إذ من الممكن، بل من الطبيعي، أن لا تتحقق دفعة واحدة . المهم أن يبقى العمل من أجلها مستمراً ومتكاملاً في التركيز والاستهداف، وأن يبقى مفتوحاً للنقد والتصحيح .

الديمقراطية تعني، عملياً، وضع دستور جديد، وإعادة بناء السلطات والمؤسسات السياسية والإدارية والقضائية وفق أحكامه، وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية لوضع البلاد على سكة حياة سياسية رشيدة .

كرامة الإنسان تعني اعتماد نهج في الحكم الرشيد يقوم على احترام حقوق الإنسان والحريات العامة، وتوفير أعلى مراتب العدالة، لا سيما العدالة الاجتماعية، لينعم المواطن بكرامة العيش والطمأنينة الاجتماعية .

تحرير الإرادة والأرض يعني فك القيود التي تحدّ من حرية الدولة في ممارسة سيادتها والشعب من التعبير عن إرادته والسعي لتأمين مصالحه ومطالبه . والحال أن إرادة مصر مقيدة بالمعاهدة المصرية ldquo;الإسرائيليةrdquo;، وأرضها حبيسة الوجود الأمريكي الذي أخضع سيناء لمجموعة من القيود ومحطات الإنذار المبكر التي تخدم مصالح ldquo;إسرائيلrdquo; ليس إلاّ .

التفكير والعمل السياسيان يتركزان في الوقت الحاضر على الهدف الأول، الديمقراطية، ومن ثم وبوتيرة أخف، على الهدفين الثاني والثالث . ذلك أن إعادة بناء الدولة الديمقراطية يشكّل، لدى معظم شباب الثورة وحتى كهولها من أركان المعارضة التقليدية، القاعدة الأساس لنجاح ثورة مصر في بناء قدراتها الذاتية بغية تحقيق الهدفين الثاني والثالث .

من المهم جداً التأكيد على حقيقة مركزية هي أن ثورة مصر لا تخّص أرض الكنانة وحدها بل تعني الأمة كلها . إن أي ثورة في بلد عربي آخر هي ثورة في قُطْر، بينما الثورة في مصر هي ثورة في أمة إن لم تكن ثورة الأمة . ذلك أن مصر بموقعها الاستراتيجي، وتراثها الحضاري، وقدراتها المتحققة والكامنة، وبعديد شعبها (85 مليوناً) الذي يشكّل ربع عديد الأمة (340 مليوناً) هي قدوة للأمة ومرشحة لتكون قائدتها أيضاً . من هنا تنبع الأهمية المعلّقة على مشاركة المفكرين وقادة الرأي العرب في ندوات التفكير والتدبير التي تعقد في مصر حالياً . يرافق الحراك الفكري والسياسي المصري في هذه الفترة تحركات أمريكية وrdquo;إسرائيليةrdquo; مريبة . فوزيرة خارجية أمريكا هيلاري كلينتون حطت رحالها في القاهرة واجتمعت إلى أركان قيادتها العسكرية وحكومتها، لكن ldquo;ائتلاف شباب 25 ينايرrdquo; رفض الاجتماع بها . أمريكا يهمها أن يحافظ النظام المصري الجديد، قيد التكوين، على تعهدات مصر ومعاهداتها مع الغرب عموماً وrdquo;إسرائيلrdquo; خصوصاً . يهمّ واشنطن كثيراً ألاّ تتقارب القاهرة وطهران، كما يهمها ألاّ تنفتح القاهرة على تنظيمات المقاومة العربية، لاسيما الفلسطينية واللبنانية منها، وألاّ تتهاون في مكافحة ما تعتبره أمريكا ldquo;إرهاباًrdquo; .

مصر ما بعد مبارك أطلقت إشارات متباينة حيال أمريكا وrdquo;إسرائيلrdquo; . فهي أكدت بأحد بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة ثم بتصريح لوزير خارجيتها الجديد نبيل العربي، تمسكها بالاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها مع شتى أطراف المجتمع الدولي بما في ذلك ldquo;إسرائيلrdquo; . كل ذلك كافٍ للاستنتاج بأن نظام ما بعد مبارك يقدّم الهدف الأول، بناء الدولة الديمقراطية، قبل الانشغال بأي هدف آخر .

غير أن النظام الجديد اتخذ، من ناحية أخرى، مواقف تدل، ولو بصورة غير مباشرة، على اعتماده سياسة مغايرة تجاه ldquo;إسرائيلrdquo; وتنظيمات المقاومة . فقد فتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة بعد أن كان نظام مبارك قد أغلقه منذ أشهر . كما قامت وزارة الداخلية في حكومة عصام شرف الجديدة بحل جهاز أمن الدولة الذي تسببت ممارساته الوحشية ضد أحرار مصر .

قرار الحل قضى على الجهاز القمعي بكل إداراته وفروعه ومكاتبه في جميع المحافظات، وأقام مكانه جهازاً جديداً باسم ldquo;قطاع الأمن الوطنيrdquo;، ldquo;يختص بالحفاظ على الأمن الوطني والتعاون مع أجهزة الدولة المعنية لحماية وسلامة الجبهة الداخلية ومكافحة الإرهاب وفقاً لأحكام الدستور والقانون ومبادئ حقوق الإنسان وحريتهrdquo; .

إلى ذلك، حرصت حكومة شرف على مواكبة زيارة كلينتون بالإعلان عن ضبط شبكة تجسس لجهاز الاستخبارات ldquo;الإسرائيليrdquo; ldquo;الموسادrdquo; كانت السلطات المختصة قد قبضت على أعضائها منذ بضعة أيام . وقد تبيّن أن الشبكة التي تضم متهماً مصرياً وrdquo;إسرائيلييَنrdquo; كانت مكلّفة بضع مهمات تخريبية بينها تفجير أنانبيب ضخ الغاز المصري عبر سيناء إلى ldquo;إسرائيلrdquo; والأردن .

كل هذه الأحداث والإجراءات لا تظلل القضية الأبرز التي تستحوذ على اهتمام الرأي العام المصري وهي المفاضلة بين المشاركة في الاستفتاء المزمع إجراؤه لإقرار التعديلات التي أدخلت على الدستور وبين رفض ldquo;ائتلاف شباب 25 ينايرrdquo; التعديلات الدستورية وإصراره على صياغة دستور جديد للبلاد وإقراره في جمعية تأسيسية منتخبة .

يبدو أن معظم أنصار الديمقراطية وشباب الثورة وأركان المعارضة التقليدية وحتى المرشحين للرئاسة بالإضافة إلى الكنيسة القبطية يعارضون التعديلات الدستورية ويطالبون بصياغة دستور جديد . حجتهم الرئيسة أن التعديلات المقترحة لا تضمن أن تكون مصر دولة مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة والمساواة بين المواطنين . وحدهم ldquo;الاخوان المسلمونrdquo; إيدوا التعديلات الدستورية وأعلنوا عن مشاركتهم في الاستفتاء .

ماذا لو تمّ رفض التعديلات الدستورية في الاستفتاء؟

محمد عطية، رئيس اللجنة القضائية المكلّفة الإشراف على الاستفتاء، صرح بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتجه، في حال رفض التعديلات الدستورية، إلى إصدار مرسوم يتخذ شكل ldquo;إعلان دستوري محدودrdquo; يحدد معالم الفترة ldquo;الانتقالية التي ستقود إلى سلطة جديدة ودولة مدنية حديثةrdquo; .

الحقيقة أن سد الفراغ التشريعي بهذا الإجراء فيه مخاطر ومضار . الأفضل أن يصار إلى تلبية مطلب ldquo;ائتلاف شباب 25 ينايرrdquo; المدعوم من أكثرية الديمقراطيين والحقوقيين والمعارضين والقاضي بصوغ دستور جديد بالتزامن مع إجراء انتخابات لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التي ستقوم بمناقشة مشروع الدستور وإقراره . وفي هذه الأثناء يقوم مجلس رئاسة مؤلف من ثلاثة أعضاء مدنيين وعسكري واحد، بإدارة شؤون الدولة خلال فترة انتقالية لا تتجاوز مدتها 6 أشهر .

إنني، كعربي معني بثورة مصر، أرى أن مطلب ldquo;شباب 25 ينايرrdquo; محق ومنطقي وواقعي .