عبدالحميد الأنصاري

من يتابع الصحف القومية في مصر هذه الأيام والإعلام القومي عامة يجدهما منشغلين تماماً بالبحث عمن يكون الرئيس القادم لمصر، والتسابق للتنبؤ بحظوظ المرشحين في الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد إجراء التعديلات الدستورية التي تسمح للعديد من الشخصيات المعروفة بالترشح للرئاسة، وقد وصلت بورصة الترشح الرئاسي إلى عشرين شخصية من مختلف التيارات بحسب توقعات 'روز اليوسف' ليكون الرئيس القادم أول 'حاكم مصري في انتخابات حقيقية'- وكأن الحكام السابقين لم يأتوا بانتخابات حقيقية!

المثير للدهشة قدرة هذه الصحف القومية والإعلام على هذا التحول الدراماتيكي، إذ بين ليلة وضحاها انقلبت بمقدار 180 درجة، ففي الأمس القريب كانت هذه الصحف تمجد الرئيس مبارك وتهلل للحزب الحاكم ورموزه، وتفرد الصحفات للتسبيح بمجد النظام القائم، والدفاع عن منجزات الحكومة، وتبرير قصورها وسلبياتها، وتحولت اليوم إلى تمجيد ثورة الأحرار، والتهليل لرموز الشباب، وإفراد الصفحات لفضح رموز النظام السابق، وفسادهم، ومقدار ثرواتهم، وكيف نهبوا مصر، واستغلوا نفوذهم وسلطاتهم، كما تقول الصحافية أمينة خيري، وتضيف أن الصحافة القومية والحزبية والخاصة باتت بعد إسقاط الرئيس مبارك ونظامه لوحة موزاييك، يحاول كل جزء منها إيجاد دولة في العهد الجديد.

هذه الظاهرة، 'ظاهرة التلون والتحول' قد لا تقتصر على الساحة المصرية، فهي موجودة بدرجة أو بأخرى في الساحات العربية الأخرى، كما أنها لا تقتصر على الصحافة وعلى الإعلاميين وحدهم، بل تطول طبقة المثقفين ورجال القانون- أيضاً- بحيث يصدق عليهم قول القائل 'كلهم ذلك الرجل'، أي الذي ينتقدونه عندما كان في السلطة!

هناك من يدافع بأن هذه طبيعة البشر في كل مكان، وهذا تبرير غير مقنع لأن الشعوب تتفاوت وتختلف بحسب طبيعة الثقافة السياسية السائدة في المجتمع، ثم إن هذا الدفاع يساوي بين مسؤولية الرجل العادي ومسؤولية المثقف والقانوني والإعلامي، وهذا غير صحيح، فمسؤولية المثقفين والقانونيين والإعلاميين والدعاة والمشايخ كبيرة، فهم قادة الرأي والتوجيه، وهم القادرون إذا تمثلوا المبادئ والقيم أن يحصنوا الجسم المجتمعي ويقووا مناعته ضد آفات الاستبداد والطغيان والفساد والانحراف من قبل من هم في السلطة.

ظاهرة التلون والتحول هي التي تمهد من الآن إلى صناعة الفرعون الجديد، وهذا أخطر ما يهدد الثورة المصرية الجديدة ويجهض آمال وأحلام الشباب الذين ضحوا في سبيل الحرية والعدالة والكرامة والمستقبل الأفضل.

كثيرون كتبوا يحذرون من اختطاف 'ثورة 25 يناير' الشبابية من قبل جماعات إيديولوجية أو حزبية انتهازية، وكثيرون أبدوا مخاوف حقيقية من انحراف الثورة عن مسارها قبل تحقيق أهدافها خشية وقوعها تحت وصاية نخب تقليدية تسعى إلى السطو عليها واستغلالها، وهناك من أبدى خشيته من بقاء الجيش الذي تعهد بضمان وحضانة الثورة ومطالبها على التزامه إذا خرجت الأوضاع عن السيطرة واستمر الفلتان والاضطرابات والاحتجاجات الفئوية والمطالب التي لا تكاد تنتهي، لكني أكثر ما أخشاه على الثورة الوليدة أن يتم إجهاضها وإفراغها من مضامينها على يد الزعيم 'الشعبوي' وبطانته من الإعلاميين والمثقفين والقانونيين الذين يجيدون فن صياغة الفرعون القادم، وهم في انتظاره ليقوموا بتمجيده كما فعلوا مع سابقيه.

لم تعجبني مسارعة رئيس الوزراء المكلف من المجلس إلى ميدان التحرير ليتملقهم ويقول أستمد شرعيتي منكم، وهو غير صادق لأن شرعيته مستمدة من المجلس العسكري لا الميدان، وحاولت مجلة 'صباح الخير' تملق رئيس الوزراء الجديد، فوضعت عنوان غلافها الخارجي 'د. شرف، رئيس وزراء من ميدان الشرعية'، متى كان الشارع مصدراً للشرعية؟! من يستمد شرعيته من الشارع فلن يحكمه الدستور ولا المؤسسات الشرعية، بل يتجاوزها باسم الشارع وباسم 'الشرعية الثورية'، كما فعلت ثورة 52 المصرية فأطاحت بكل الأبنية القائمة، والمفترض في الثورة الجديدة أن تفيد من الدروس السابقة لا أن تقع في نفس الأخطاء.

كل الطغاة في العالم العربي ادعوا أنهم يحكمون باسم الشعب، والقذافي يردد يومياً على الملأ أن الملايين معه وتحبه! وفي المقالة القيمة 'من فرعن الفرعون؟' حاول محمد الرميحي تحليل ثقافة 'الفرعنة' التي تتدرج من المديح إلى التمجيد إلى التألية ثم الفرعنة، وقال: إنها ثقافة منتشرة على مستويات كثيرة وتحت أغطية مختلفة، وأضاف: شاهدت الفراعنة في انقلاب بعض الشخصيات بين يوم وليلة، بين مؤيد للنظام حتى العظم إلى ناقد له حتى العظم، كما شاهدته في ادعاء البعض البطولات في وجه النظام السابق أو تقريع واتهام شخوص في النظام السابق، ويرجع الرميحي أسباب ثقافة الفرعنة إلى وجود خلل في المعايير الأخلاقية تدفع أفراد المجتمع لتقديم رغباتهم الشخصية ومصالحهم على أي قيمة عليا.

وفي هذا لابد من القول بصراحة، طبقاً لماجد كيالي، إن القذافي- شأنه شأن غيره- لم يتفرعن من ذاته، ولم تنتبه أوهام العظمة مجاناً، فقد أسهم في صنع هذا الصنم القاسي والمدعي الكاركاتوري عدد كبير من قادة الأحزاب السياسية، وكذا مثقفون وإعلاميون وفنانون لمجرد امتيازات وعطاءات.

أما عبده وزان فيتحدث عن فضيحة الثقافة العربية على يد نخبة ثقافية مرتزقة تضم كتابا وشعراء تسابقوا في كيل المديح والثناء لفكر القذافي وكتابه الأخضر، وكتبوا مقالات لا تحصى عن أدب معمر القذافي في روايته 'القرية القرية... الأرض الأرض... وانتحار رائد الفضاء' ونصبوه روائياً فذاً وأديباً وحكيماً من حكماء الأرض. يقول وزان: يشعر متصفح هذه المجلدات الضخمة بحال من الأسى أولاً ثم بحال من الشفقة، هل يمكن أن يحظى القذافي 'الأديب' بهذا الكم من التقريظ والمديح؟! هل يمكن أن يجذب القذافي هؤلاء الكتاب وكأنهم خدم في بلاطه؟!

والواقع أن القذافي لم ينجح في شراء الذمم وبعض الأقلام العربية فحسب، بل تمكن من شراء بعض الأقلام الغربية عبر استئجار هيئة هارفارد الاستشارية بمبالغ طائلة من أجل تحسين صورته دولياً عقب محاكمة 'لوكيربي'، وبموجب ذلك تم استقدام محاضرين كبار، منهم 'فوكوياما' و'برنارد لويس' وصحفيون وسياسيون ورجال أعمال لإلقاء محاضرات في مركز الكتاب الأخضر، ومنحت كلية لندن الاقتصاد والعلوم السياسية الدكتوراه لسيف الإسلام عن رسالته في الديمقراطية مقابل منحة ضخمة!

إن التحدي الأكبر أمام الثورات الجديدة هو وضع خريطة الطريق للبناء والتنمية، وبناء المؤسسات المدنية وإطلاق طاقات الشعب للنهضة والتقدم وتحويل الثورة إلى حكم ديمقراطي حقيقي، أساسه مبدأ 'المواطنة' الشامل لكل أطياف ومكونات المجتمع، وإن بناء المؤسسات القومية التي تحمي الديمقراطية وتمنع انحراف السطلة وتقوّم الحاكم هو الامتحان الأكبر للثورات الجديدة، لكن المؤسف أن الدستور الحالي، وحتى بعد التعديلات، يضخم سلطات الرئيس ويمنحه 51 صلاحية، تجعله 'فرعوناً' مستبداً وفاسداً، وهناك اليوم مطالبة واسعة بدستور جديد يقلص صلاحيات رئيس الجمهورية، كما أنه لا بد من فترة كافية لنشر ثقافة الديمقراطية حتى تكون للناس رؤية أوسع وقدرة أكبر على اختيار الأصلح.

ويتخوف وزير العدل الأسبق محمود أبوالليل مما هو حاصل، ويخشى أن 'نكون استبدلنا بدكتاتور دكتاتوراً أسوأ'، فهناك اليوم إرهاصات لبزوغ ثقافة سياسية جديدة تناهض ثقافة الحزب الواحد والقائد الواحد، وهذه الثقافة إذا تمكنت وترسخت في التربة المجتمعية تكون بمنزلة المصل الواقي من آفات الاستبداد والطغيان، وهي تبشر بآمال واعدة كثيرة لمصر والعالم العربي.