شريف عبدالغني


يوم الحدث التاريخي بتنحي حسني مبارك مجبرا عن laquo;عرشraquo; مصر، كانت سعادتي لا توصف، ففضلا عن غروب شمس عصر laquo;موظف روتينيraquo; تولى حكم دولة كبرى فـ laquo;تصغرraquo; على يديه ويضمحل دورها على كل المستويات، فقد كان هناك حدث شخصي سبب لي بهجة إضافية، حيث نشر لي يومها (الجمعة 11 فبراير) مقالان أحدهما هنا في laquo;العربraquo; حول سقوط مبارك، والآخر بجريدة laquo;المصري اليومraquo; -أهم الصحف المصرية- يتضمن تفاصيل هروبه، وكأن طاقة القدر انفتحت واستجابت السماء لما كتبته حيث خرج عمر سليمان -وخلفه laquo;الراجل اللي ورا عمر سليمانraquo;- يعلن في المشهد الشهير تخلي مبارك عن الحكم.
وسط الزخم والاحتفالات والفرحة التي غمرت أنحاء مصر والعالم، شاء حظي العثر أن ألتقي أحد أقاربي وزوجته فوجدتهما في حالة تختلف عن الأجواء السعيدة السائدة التي لمستها في الشوارع. كان العبوس عنوان وجهيهما والحزن رمز ملامحهما.
- سألتهما: خير إن شاء الله.. حصل حاجة؟
أجاب الزوج: يعني هيحصل إيه أكتر من اللي إحنا فيه؟
- يا ساتر.. إيه اللي جرى؟
ردت الزوجة: شوفت اللي حصل لمبارك؟
- حصل إيه.. أهو أخيرا ساب الحكم بقوة الثورة والضغط الشعبي؟
قال الزوج: والله يا باشا.. أنا زعلت آخر زعل عليه.. وقعدت أبكي أنا ومراتي.. بقى دي آخرتها.. شوية عيال يعملوا كده في الكبير بتاعنا.. ده حتى قلة أدب.. والمثل بيقول laquo;اللي مالوش كبير يشتري له كبيرraquo;.. نعمل إحنا إيه من غيره دلوقتي؟!
عادة لا أدخل في نقاشات مع قريبي هذا وزوجته، ودائما ما أهرب من الإجابة عن أي سؤال لهما، خاصة أنهما من الطيبة بحيث لا يستوعبان ما يحدث في الساحة المصرية، وعقلهما مبرمج على ما يذيعه التلفزيون الحكومي وتشكيلة منافقي مبارك وحاشيته، لكن في هذه الحالة لم أسكت، وحاولت أن أبعد عن سلبيتي معهما، وظللت أشرح لهما المآسي التي سببها هذا الرجل لمصر، وأن هؤلاء الشباب الذين فجروا الثورة خرجوا من بيوتهم وتعرضوا للضرب بالرصاص المطاطي والحي وقنابل الغاز ودافعوا ببسالة عن ميدان التحرير ضد هجوم بلطجية حسني مبارك في غزوة laquo;الجملraquo;، من أجلنا ومن أجل أولادنا، وأنه من الواجب على الجميع أن يكونوا معهم هناك. ثم إنه ليس عيبا مطالبة الحاكم بالتنحي عن السلطة إذا أضر بالبلاد والعباد، لأنه في الأساس موظف عند الشعب.
بح صوتي من الكلام، وبدا أنهما تعرضا لصدمة فكرية جعلتهما يعيدان مواقفهما، وفي الوقت الذي توقعت فيه أن يتحدثا بإعجاب عن الثورة وشبابها، فوجئت بالزوج يقول: laquo;خلاص بقى هما قاموا بالثورة، المفروض يروحوا بيوتهم.. ده أنا شوفت واحد فيهم في التلفزيون نايم قدام عربية الشرطة ومش خايف إنها تدهسه.. يعني فيه بجاحة أكتر من كده.. وأنا رأيي إن الجيش يلمهم من الشوارع ويأخدهم في معسكراته بالأمر.. ولا إيه رأي سعادتك؟raquo;.
وقتها كاد أن يغمى علي، واستعدت في سرى كلمة سعد زغلول الشهيرة laquo;مفيش فايدةraquo;!
كارثة تفكير قريبي هذا ستتضاعف إذا عرفنا أنه خريج كلية الحقوق، التي يفترض أن من يتخرج منها يكون أدرى بالشأن العام وحقوق الإنسان من غيره، خاصة أن قادة معظم الفكر والرأي في مصر بل والعالم هم من دارسي القانون، كما أن مأساة زوجته ستصل إلى حد الملهاة حينما نعرف أنها خريجة كلية حقوق أيضا وتعمل في سلك القضاء!!
لكني حقيقة ألتمس العذر لهما، إنهما مثل أحمد زكي في فيلم laquo;البريءraquo; الذي أوهموه أن المعارضين السياسيين هم laquo;أعداء الوطنraquo; فساهم في قتل أحدهما بيديه حرصا على مصلحة البلد حسب فهمه، وتمنى أن يتم قتل باقي laquo;الأعداءraquo; حتى يستطيع هو وزملاؤه الجنود في معسكر الشرطة (أن كل واحد فينا يرجع لبيته وغيطه laquo;حقلهraquo;). وبهذا المنطق فقد عارض قريبي الثورة من بدايتها، وصدق مزاعم إعلام الحكومة بأن الثوار عملاء للخارج، ويقومون بأعمال بلطجة في الشوارع، وبالتالي فقد كان كل همه أن تنفض الثورة حتى تنتهي laquo;بلطجةraquo; الثوار، وبالتالي فلا يتحمل مشاق توصيل زوجته إلى منزل أسرتها في مدينة بعيدة عن القاهرة التي يعيث فيها الثوار فسادا!!
قد أستغرق قرنا من الدهر حتى أستطيع إقناع هذين الزوجين أن سبب وصولهما لهذا المستوى من التفكير هو مبارك نفسه الذي يذرفان الدموع على فراقه. هذه هي الحقيقة.. إن طول بقائه في السلطة قد يكون -بحسب أساتذة علم نفس- أصاب قطاعا من المصريين بمرض laquo;متلازمة استكهولمraquo; وهو مصطلح يطلق على الحالة النفسية التي تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، وتؤكد هذه النظرية أن بعض الناس عندما يتعرضون للخطف أو القمع والاعتداء الجسدي أو حتى الاغتصاب بدلا من أن يدافعوا عن كرامتهم وحريتهم، فإنهم مع تكرار الاعتداء يتعاطفون مع المعتدي ويذعنون له تماما ويسعون إلى إرضائه. وكما يصيب laquo;مرض استكهولمraquo; الأفراد فإنه قد يصيب الجماعات والشعوب.. فالشعب الذي يعاني من الاستبداد والقمع لفترة طويلة قد يصاب بعض أفراده بهذا المرض فيتوحدون نفسيا مع من يقمعهم ويذلهم، ويعتبرون الاستبداد شيئا إيجابيا وضروريا لحكم البلاد.
أعتقد أن هذا ما حدث فعلا لقريبي وزوجته، فضلا عن أمر آخر يعد إدانة إضافية لمبارك، فالدولة في عهده أهملت التعليم تماما، وخصصت ميزانية ضئيلة له تقل عشرات المرات عما خصصته لأجهزة الأمن. وأعتقد أن هذا الأمر كان مقصودا لتخريج متعلمين ليسوا بمتعلمين وأقرب إلى الأميين حتى لا يعرفوا حقوقهم وواجباتهم، وبالتالي يبقى الديكتاتور جاثما وضاغطا على أنفاس الشعب، بينما الأخير سعيد ويقول له: laquo;والنبي كمان شوية ضغطraquo;!
أما وقد نجحت الثورة في القضاء على حاكم فاسد، فإن الأهم الآن إعادة البناء والاهتمام بالتعليم، وإلا فسيزداد عدد مؤيدي قريبي ويجلسون معه وزوجته للبكاء على مبارك!!