محمد السماك

ترتفع ثلاث علامات استفهام كبيرة أمام الرئيس الاميركي باراك أوباما تتعلق بكيفية تعامله مع الحرب الأهلية في ليبيا.
تتناول علامة الاستفهام الأولى مبدأ التدخل العسكري المباشر ضد قوات الرئيس الليبي معمر القذافي. وهنا تقفز إلى الواجهة صورة التجربة الأميركية مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين. فالتجربة الأميركية في العراق أدت إلى مقتل أكثر من مليون عراقي وخمسة آلاف جندي أميركي. كما انها أرهقت الخزانة الأميركية وضاعفت من ديونها الخارجية، وأساءت إلى سمعة الولايات المتحدة في العالم.
وقد تجسدت هذه النتائج في السقوط المدوي للرئيس الأميركي السابق جورج بوش وسقوط الحزب الجمهوري الذي كان يتزعمه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.. وفوز الرئيس الحالي باراك أوباما كأول شخصية من أصول افريقية تصل إلى البيت الأبيض.
كما تجسدت هذه النتائج في التعهدات التي التزم بها الرئيس الجديد. وهي الانسحاب من العراق وعدم التورط في حرب جديدة.. والتنسيق الكامل مع الأمم المتحدة قبل اتخاذ أي موقف يتعلق بقضايا الأمن الدولي وعدم الإقدام على أي خطوة عملية من دون التفاهم مع الحلفاء المعنيين.
من هنا ربط الرئيس أوباما موقفه من الأوضاع في ليبيا بموقف الامم المتحدة، وبمجلس الأمن الدولي تحديداً. وربط المجلس نفسه موقفه بجامعة الدول العربية باعتبار ان ليبيا دولة عربية وعضو في الجامعة. ويختلف هذا التصرف السياسي عن التصرف الذي لجأت اليه الادارة الاميركية السابقة في العراق.
حتى ان حلف شمال الأطلسي امتنع عن القيام بأي عمل لفرض حظر جوي على ليبيا قبل أن يحصل على قرار بذلك من جامعة الدول العربية، خلافاً لما جرى أيضاً في العراق عندما فرضت الولايات المتحدة، بقرار منفرد، الحظر الجوي عليه بعد انسحابه من الكويت.
مع ذلك فإن الرئيس الاميركي أوباما يدرس الموقف الأميركي من مبدأ التدخل في ليبيا في ضوء تجربة التدخل الفاشل في العراق.
أما علامة الاستفهام الثانية فانها تتناول اقتراح دعم المقاومة الليبية المعارضة لحكم الرئيس القذافي من دون التدخل العسكري المباشر. وهو ما فعلته الولايات المتحدة في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي عندما كانت أفغانستان تحت الاحتلال السوفياتي.
فقد دعمت الولايات المتحدة حركة المجاهدين الأفغان. وحوّلت باكستان إلى معسكر تدريب لهم واستحدثت فيها مدارس دينية quot;تحرّض على الجهاد ضد الكفارquot;. كما جعلت منها قاعدة خلفية لتزويد المجاهدين بالمال والسلاح. كذلك فان الولايات المتحدة حثت العديد من الدول العربية والاسلامية على دعم الثوار بالمال والرجال، فانطلقت أفواج من المجاهدين العرب إلى أفغانستان من الجزائر وليبيا والمغرب ومن مصر ودول مجلس التعاون الخليجي.. وكان أسامة بن لادن أحدهم.
ولكن بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان، ومن ثم سقوط النظام الشيوعي، انقلب السحر على الساحر. فأصبح المجاهدون في نظر الولايات المتحدة ارهابيين.. وذهب استعداؤهم إلى حد دفعهم إلى ارتكاب الجريمة المروعة في نيويورك في 11 سبتمبر 2001. وبالنتيجة فإذا كانت تجربة التدخل المباشر في العراق قد أدت إلى نتائج كارثية على الولايات المتحدة وعلى العراق وعلى الوطن العربي كله، فان تجربة التدخل غير المباشر في أفغانستان أدت إلى نتائج كارثية أيضاً على الولايات المتحدة وعلى أفغانستان والباكستان.. وعلى العلاقات الأميركية مع العالم الاسلامي كله.
وأمام الفشل الأميركي في كل من العراق وأفغانستان، فإنه لا يوجد ما يوحي بأن هذا الفشل لن يتكرر في ليبيا ايضاً سواء جاء التدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة. من أجل ذلك تقف الادارة الأميركية متعثرة ومكتوفة الأيدي بحثاً عن مخرج آخر.
من هنا السؤال الثالث، وهو إلى متى تقف الولايات المتحدة موقف المتفرج على الفاجعة الإنسانية تتوالى فصولاً في ليبيا؟ أين الشرعية الدولية، وموجبات الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي؟ أين حقوق الأقليات وأين حقوق الجماعات؟ وأين القانون الدولي؟
تضع هذه التساؤلات الولايات المتحدة أمام تجربة التدخل العسكري السياسي في كوسوفو في البلقان. فبعد أن مارست الحكومة الصربية مجازر ضد الكوسوفار، ورفضت احترام حقهم في تقرير المصير، عمدت الولايات المتحدة بالاشتراك مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي، وتحت غطاء الشرعية الدولية ممثلاً بقرار من مجلس الأمن الدولي، إلى قصف صربيا وحتى إلى قصف عاصمتها بلغراد. وقد أدى القصف التدميري إلى اضطرار صربيا إلى الانسحاب من كوسوفو ومن ثم اعلانها دولة مستقلة. صحيح أنه لا صربيا ولا الاتحاد الروسي اعترف بهذا الاستقلال، الا ان ذلك لا يغير من جوهر الأمر، وهو أن التدخل العسكري المشترك أوقف المجزرة الانسانية، وفرض أمراً واقعاً جديداً في البلقان.
إن اعتماد هذه التجربة في ليبيا هو أقل صعوبة، خاصة بعد القرار الذي اتخذته جامعة الدول العربية والذي طالبت فيه مجلس الأمن الدولي بفرض الحظر الجوي على ليبيا. وهو قرار جاء بعد قرار سابق للجامعة لا يقل أهمية من حيث رمزيته وينص على سحب الاعتراف العربي بشرعية الرئيس القذافي.
غير ان ليبيا عضو في منظمة الوحدة الافريقية. والرئيس الليبي هو quot; ملك ملوك افريقياquot;، الأمر الذي يتطلب استصدار قرار من المنظمة برفع غطاء الشرعية الافريقية عنه قبل أي تدخل، وهو ما دعت اليه السيدة أشتون وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي أثناء زيارتها لمقرّ جامعة الدول العربية في القاهرة. ثم ان هذا التدخل شيء، وفرض الحظر الجوي شيء آخر. لقد فرضت الولايات المتحدة حظراً جوياً على عراق الرئيس السابق صدام حسين لسنوات طويلة قبل أن تشن الحرب عليه. ولكن الحظر لم يحل دون استمرار المأساة العراقية، في شمال البلاد وفي جنوبها على حد سواء.
غير ان مناطق الحظر التي حددتها الولايات المتحدة في ذلك الوقت تبدو الآن وكأنها مناطق التقسيم الذي يواجه العراق خطر الوقوع فيه : الشمال الكردي والجنوب الشيعي والوسط السني. ويخشى أن يتجدد الأمر ذاته في ليبيا التي كانت تتألف من ثلاثة أقاليم قبل أن يحتلها الإيطاليون في عام 1916، وهي طرابلس وبرقة وفزّان. وفي عام 1951 أعلنت الأقاليم الثلاثة مملكة موحدة (ادريس السنوسي) إلى أن قاد العقيد معمر القذافي الانقلاب العسكري وأطاح الملكية في عام 1969.
لقد عرفت ليبيا قبل الأحداث الأخيرة حركات تمرد في برقة في عامي 1996 و 2006 جرى قمعها بالقوة العسكرية. من هنا خطر انقسام الدولة مرة جديدة على النحو الذي عرفته صربيا بعد التدخل العسكري الأميركي المدعوم من حلف الاطلسي. فقد تقسمت هي الأخرى إلى ثلاثة أقاليم (أو دول) هي كوسوفو والجبل الأسود وما تبقى من صربيا.
من هنا عقدة التدخل في ليبيا. فالتدخل سيئ. وسيئ ايضاً الوقوف موقف المتفرج على ما يجري فيها من تقتيل وتدمير.
لقد طرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اقتراحاً لمعالجة المحنة الليبية على قاعدة تخلي القذافي عن الرئاسة لرئيس جديد. غير ان هذا الاقتراح وفي ضوء شخصية القذافي المعقدة ونرجسيته المفرطة، لا يعدو كونه أضغاث أحلام.