JOSEPH FELTER AND BRIAN FISHMAN - Foreign Policy


قد لا يكون أعداء عدونا في ليبيا أصدقاءنا، وسيكون للولايات المتحدة وحلفائها في ليبيا اليوم دورٌ في تحديد الخطر الذي سيشكّلونه على المصالح الأميركية في المستقبل، فلا شك أن الخيارات التي يواجهها صناع السياسات صعبة جداً، فغالباً ما يؤدي التدخل إلى سيناريو يكون فيه الجميع خاسرين، ولكن على المجتمع الدولي التكيّف مع هذا الغموض في أسرع وقت ممكن، لأن الخيارات في اليمن والبحرين وسورية لن تكون سهلة بالتأكيد.

في شهر سبتمبر من عام 2007، أغار الجنود الأميركيون على معسكر في الصحراء خارج بلدة سنجار في شمال غرب العراق للبحث عن متمردين، لكنهم وقعوا وسط الخيام على اكتشاف مذهل: مجموعة من الملفات الشخصية 'أكثر من 700 ملف' تتناول بالتفصيل أصول المحاربين الأجانب الذين استقدمهم تنظيم 'القاعدة' إلى العراق للقتال ضد قوات التحالف.

كشفت سجلات سنجار- التي حللناها بدقة في سلسلة من التقارير أُعدت لمركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت- أن ما لا يقل عن 111 ليبياً دخلوا إلى العراق بين أغسطس 2006 وأغسطس 2007، فشكّل هؤلاء نحو 18% من محاربي 'القاعدة' الوافدين خلال تلك الفترة، واحتلت ليبيا المرتبة الثانية على لائحة بلدان مقاتلي 'القاعدة' في العراق، بعد المملكة العربية السعودية '41%'، والمرتبة الأولى من حيث نسبة المقاتلين إلى عدد السكان.

بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، تجدد الاهتمام بسجلات سنجار لأسباب جلية، فبعد مرور نحو أربعين يوماً على انطلاق الانتفاضة ضد العقيد معمر القذافي في ليبيا وانقضاء أحد عشر يوماً على تدخل قوات حلف شمال الأطلسي لفرض حظر جوي على هذا البلد، لم نكوّن حتى الآن صورة واضحة عن هوية المقاتلين الذين يخوضون الحرب ضد القذافي، فقد أقرت وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، في 29 مارس: 'ما زلنا نعمل لمعرفة مَن يقود المجلس الوطني الانتقالي'، المنظمة السياسية التي يُقال إنها تمثل الثوار.

يصرّ القذافي على أن علاقةً تجمع أعداءه الثوار بتنظيم 'القاعدة'، كذلك، يعبّر منتقدو هذه الحملة الدولية ومؤيدوها الأميركيون عن قلقهم من أن يكون هذا الحاكم المستبد المسن محقاً في ما يقوله، ففي جلسة استماع عُقدت في الكونغرس في واشنطن في 29 مارس، أصاب السيناتور جيمس إنهوف 'جمهوري من أوكلاهوما' بسؤاله جيمس ستافريدس، القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا، عن 'تقارير تشير إلى انتشار لعناصر القاعدة بين الثوار'، لكن ستافريدس أجاب أن معظم الثوار، في رأيه، 'رجال ونساء مسؤولون يناضلون ضد القذافي'، مع أن الجيش 'لاحظ وجوداً طفيفاً للقاعدة وحزب الله'.

كيف يلزم أن يتعامل، إذن، صناع السياسة في واشنطن وغيرها من عواصم العالم مع هذا الغموض؟ عليهم أولاً التروي والتحقق بدقة من وجود شبكات اجتماعية جهادية في ليبيا، ولكن من الحماقة المبالغة في تقييم هذا الخطر بالاستناد إلى الأدلة المحدودة التي قدمتها سجلات سنجار، فضلاً عن ذلك، على المجتمع الدولي، الذي يضغط على نظام القذافي، تفادي سياسات قد تزيد من احتمال أن تستغل المجموعات الجهادية الفوضى المنتشرة في ليبيا.

إذن، ماذا تكشف لنا سجلات سنجار عن الجهاديين في ليبيا؟ فضلاً عن عددهم الإجمالي، نستخلص من هذه السجلات أن أغلبية المقاتلين الليبيين الوارد ذكرهم فيها قدِموا من شمال شرق ليبيا، المنطقة التي يتمركز فيها الثوار اليوم، فقد جاء نصفهم من درنة 'مدينة تعد 80 ألف نسمة وتقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، على بعد نحو 240 كيلومتراً شرق بنغازي، التي تؤدي دوراً فاعلاً في هذه الثورة'، وربعهم من بنغازي 'قلب الانتفاضة الحالية النابض'، علاوة على ذلك، تدفق المقاتلون الليبيون إلى العراق، على ما يبدو، خلال فترة قصيرة من الوقت امتدت بين شهرَي مارس وأغسطس من عام 2007، ويشير هذا الارتفاع المفاجئ إلى أن الشبكات القبلية والدينية حُثَّت على إرسال المقاتلين إلى الخارج، كذلك، تبيّن أن هؤلاء المحاربين متفانون إلى أبعد الحدود، فعندما قدِموا إلى العراق، سُجّل نحو 85% منهم في ملفات سنجار بصفتهم انتحاريين, علماً أنه ما من بلد آخر تفوق على ليبيا في هذا الصدد غير المغرب.

لهذا الخبر وجهان، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فمن جهة، من المقلق حقاً معرفة أن الشبكات الاجتماعية المتعاطفة مع 'القاعدة' تستطيع حشد قوة بهذا الحجم والإصرار في غضون أشهر، ما يُظهر قدرتها على القيام بالأمر عينه اليوم أيضاً، ومن جهة أخرى، نجمت هذه الزيادة في عدد المقاتلين عن عمل مجموعة صغيرة ومحددة من الشبكات، ما يشير إلى أن دعم تنظيم 'القاعدة' ينحصر في مجتمعات قبلية أو دينية أو اجتماعية معينة، ولا ينتشر بين مختلف شرائح المجتمع الليبي.

بالإضافة إلى ذلك، فمن غير الحكمة تحليل مجتمع معقد بالاعتماد على عناصره الأكثر خطورة فحسب. صحيح أن نسبة الليبيين كانت كبيرة بين الإسلاميين الأصوليين في العراق، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن نسبة هؤلاء الأصوليين كبيرة بين الثوار المناهضين للقذافي، فتشير التقارير من الخطوط الأمامية في هذا الصراع إلى أن الثوار يمثلون خليطاً معقداً من مختلف شرائح المجتمع الليبي. باختصار، ما من سبب يدفعنا إلى الاعتقاد أن المجاهدين سيحصلون على نفوذ سياسي واسع في ليبيا، في حال استلم الثوار السلطة، علماً أنهم قد يتمكنون من العمل بحرية أكبر، عندما يتخلصون من قبضة القذافي الحديدية.

لكن السيناريو الأكثر احتمالاً، في حال لم يحقق الثوار انتصاراً واضحاً، ينطوي أيضاً على مخاطر جمة: جمود عسكري أو انقسام داخلي بين مجموعات الثوار قد يؤدي إلى حرب أهلية عشوائية يغيب معها حكم القانون ويزدهر خلالها فصيل جهادي صغير. فقد أظهر التاريخ أن مجموعة صغيرة من المتطرفين يمكن أن تنشر الفوضى وتعرقل الجهود الرامية إلى ترسيخ الاستقرار والنظام في دولة ضعيفة، إن توافرت لها القيادة الناجحة والأسلحة والأجهزة اللازمة. على سبيل المثال، عانت الجزائر عقداً من الحرب الأهلية العنيفة بسبب متطرفين مثل الجماعة الإسلامية المسلحة والجماعة السلفية للدعوة والقتال التابعة لها، وتشمل الأمثلة الأخرى جماعة أبو سياف في جنوب الفلبين، الجماعة الإسلامية في إندونيسيا، والمجموعات الإسلامية الأصولية التي أججت التمرد في الشيشان. كذلك، لا يزال تنظيم 'القاعدة' في العراق يقتل أعداداً من الناس تُعتبر غير مقبولة البتة في أي بلد لم يشهد ماضيه القريب عنفاً مماثلاً.

ولكن من أين تأتي الفصائل الجهادية الخطرة في ليبيا؟ في تحليلنا الأولي لسجلات سنجار، ذكرنا أن نمط تجنيد الثوار الليبيين يشير على الأرجح إلى أن شبكات مرتبطة بالجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا 'منظمة ليبية محظورة هدفها الرئيس الإطاحة بنظام القذافي' لا تزال ناشطة، وقد عززت هذا الاحتمالَ تقاريرُ أخيرة أوضحت أن أعضاء سابقين في الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا قدِموا من جنوب آسيا للانضمام رسمياً إلى 'القاعدة' في شهر نوفمبر عام 2007، موحدين بالتالي جهودهم مع مجاهدين ليبيين بارزين آخرين في صفوف 'القاعدة'. لكن بعض الباحثين شككوا في دور الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، ذاكرين أن أنماط التجنيد هذه تعكس جهود شبكات قبلية ودينية غير منظمة. قد يكون كلا هذين التفسيرين صحيحا، ولكن لا بد من الذكر في هذا الصدد أن الكثير من قادة الجماعة الإسلامية المقاتلة، الذين ألقاهم القذافي طوال سنوات في السجن في ليبيا، قد نددوا بتنظيم 'القاعدة' عام 2009، ولا يسعنا سوى الانتظار لمعرفة ما إذا كان هؤلاء 'أو غيرهم ممن يُحتمل أن يُطلَق سراحهم في المستقبل' سيجددون تعاطفهم السابق مع هذا التنظيم. صحيح أن سجلات سنجار تثير الأسئلة أكثر مما تزودنا بأجوبة عن الثوار الليبيين، إلا أنها تطرح بعض الأفكار المثيرة للاهتمام بشأن الأساليب الفضلى للتعامل مع الحرب الأهلية الليبية وما يليها، فلا شك أن الثوار يضمون مجاهدين متعاطفين مع تنظيم 'القاعدة'، بيد أن هذه الشبكات منفصلة عن الثورة بنطاقها الأوسع، وكانت ستنشأ سواء فرضنا على ليبيا حظراً جوياً أم لا، لذلك، يكمن التحدي الذي نواجهه اليوم في احتوائنا قدرة مثيري الشغب في ائتلاف الثوار على استغلال حالة الفوضى باعتمادنا أساليب عملية فاعلة، لا خطوات سخيفة لا طائلة فيها.

لا شك أن هذه مهمة صعبة، نظراً إلى الغموض الذي يلف أرض المعركة، ولكن علينا تحديد هوية الشبكات الجهادية في ليبيا ومعرفة قدرتها داخل ائتلاف الثوار الأشمل. وتزودنا سجلات سنجار بنقطة انطلاق مهمة، إذ تتيح لأجهزة الاستخبارات طرح أسئلة وجيهة عن هذه الشبكات, غير أنها لا تقدّم وحدها الأجوبة الشافية، فعندما اجتاحت الولايات المتحدة العراق، واجهت كارثة كبرى لأنها افتقرت إلى المعرفة الكافية عن تعقيدات الشبكات القبلية والاجتماعية في هذا البلد... صحيح أن تدخلاً مسلحاً واسع النطاق في ليبيا قد يسفر عن نتائج عكسية، لكن قوات حلف شمال الأطلسي تعرّض نفسها للخطر بتجاهلها ضرورة فهم طبيعة هذا البلد الاجتماعية.

يستطيع المجتمع الدولي أيضاً، في سعيه إلى الحد من خطر التمرد الإسلامي، الاستفادة من أهم مزايا تدخله في ليبيا: الدعم الدبلوماسي الشامل، فبالحفاظ على تماسك هذا التحالف، خصوصاً الدعم العربي، ينجح المجتمع الدولي في الحد من تأثير ادعاء 'القاعدة' أن الغرب يشن حرباً ضد المسلمين. فقد قدّم دعم جامعة الدول العربية لتدخل المجتمع الدولي في ليبيا مساحة سياسية بالغة الأهمية أتاحت للأمم المتحدة والتحالف فرض حظر جوي على هذا البلد، وإذا تطورت هذه المهمة لتبلغ مستويات أكثر عدائية بغية الإطاحة بالقذافي، فمن المهم الحصول على تأييد عام من الدول العربية.

يواجه المجتمع الدولي راهناً سؤالاً أساسياً: هل يلزم تسليح الثوار؟ لا شك أن لهذه الخطوة مزايا مهمة، إلا أنها أقل أهمية من مخاطرها، خصوصاً احتمال أن ينتهي المطاف بهذه الأسلحة في المستقبل إلى أيدٍ أكثر عدائية، فمخازن أسلحة القذافي تشكّل بحد ذاتها خطراً طويل الأمد لا يهدد ليبيا فحسب، بل أيضاً سائر الدول في شمال إفريقيا، مثل تونس ومصر، ويجب ألا تُفاقم قوات التحالف هذه المشكلة.

صحيح أن الحملة الجوية قد لا تؤدي بمفردها إلى الإطاحة بالقذافي، غير أنها أتاحت لنا الوقت الكافي للتوصل إلى سبل أكثر فاعلية لدعم الثوار، سبل لا تزيد من خطر العواقب غير المرجوة، وإذا كان تحسين قدرة الثوار العسكرية خطوة ضرورية، فعلى المجتمع الدولي أن يزودهم بالتدريب الضروري، لا السلاح. تُعتبر مساعدة المتمردين شكلاً تقليدياً من أشكال الحرب غير التقليدية، ولا تتطلب هذه الخطوة بالضرورة نشر جنود غربيين في ليبيا، فتستطيع الولايات المتحدة مدّ يد العون بتسهيلها عملية الاتصال بين الثوار وتقديمها توجيهات فاعلة بشأن تفاصيل عسكرية أساسية، مثل حفر الخنادق وتنسيق عمليات القصف. ومن الممكن تقديم التدريب والنصائح العسكرية لقادة الثوار خارج الحدود الليبية 'في دولة مجاورة مثلاً' بدعم من دول أخرى في المنطقة.

قد لا يكون أعداء عدونا في ليبيا أصدقاءنا، وسيكون للولايات المتحدة وحلفائها في ليبيا اليوم دورٌ في تحديد الخطر الذي سيشكّلونه على المصالح الأميركية في المستقبل، فلا شك أن الخيارات التي يواجهها صناع السياسات صعبة جداً، فغالباً ما يؤدي التدخل إلى سيناريو يكون فيه الجميع خاسرين، ولكن على المجتمع الدولي التكيّف مع هذا الغموض في أسرع وقت ممكن، لأن الخيارات في اليمن والبحرين وسورية لن تكون سهلة بالتأكيد.