سيد بابار علي

علينا إعادة الفضاء الفكري ليصبح اللغة المفضلة للدراسات الثقافية والسياسية، وإن أدى ذلك إلى جعل الاستعارة تحتل مكان الصدارة. فبقدر ما تركز النظريات السياسية على المجتمع، فإن اللغة كلية الوجود، تركز كعلاقة خارجية لها على الفضاء.

وكما توحي انتفاضات الوطن العربي والأحداث التابعة لها، فإن الانعطافة الفضائية من الممكن أن تكون ذات طابع مفهومي مجرد لدى بعض الدوائر الأكاديمية، إلا أنها أيضاً، تعتبر عنصراً حاسماً في انبعاث التنافسات حول إنتاج الفضاء المحلي والإقليمي.

وهي مهيأة لأن تكون أكثر الموضوعات الأكاديمية جاذبية، إذ علينا إعادة الاكتشاف الواسع المدى، للمفهوم الفضائي في الصيرورة الثورية المعاصرة، كي يقدم أساساً عقلياً وفلسفياً بدرجة كبيرة، لإعادة تأطير السياسة بوصفها في جوهرها فضائية الطابع. فالفضاء هو أنطولوجيا السياسة، وأياً كانت اللغة الفلسفية الغالبة فإن تلك التنظيرات ذات الطابع الفضائي المستلهمة، هي لحظة فضائية بقدر ما هي لحظة تاريخية.

وإذا كان الاهتمام ما زال أكبر في مجال السياسة، منه بالنسبة إلى مفهوم الفضاء، حيث إنه، كي نفهم واقع العالم العربي الذي نعيش فيه الآن، علينا أن نتعامل مباشرة مع الدعائم النظرية المتنوعة، وتوجيه الميول الفلسفية والنوازع السياسية، نحو اكتشاف الفضاء في إطار عملية التنظير السياسي. فإضفاء الطابع الفضائي على السياسة يستمد من النظريات السياسية والاجتماعية التي تتحول لأن تكون فضائية، فالفضائيات ابتداءً من الواقع الجغرافي العلمي، ووصولاً إلى رؤية محددة بصورة أكثر دقة للبدائل السياسية، تعتبر بمثابة التفصيل الأكثر توليفة بين كل من الفضاء والسياسة، فإضفاء الطابع الفضائي على العملية الثورية اليوتوبية ينطوي بالضرورة على تفضيل أحد الأشكال الفضائية على الآخر، أي ينطوي على قرار من نوع إما/ أو وإذا كانت الجغرافيات الثورية الجديدة واقعية بشكل عام، فإن اختيار أحد الأشكال الفضائية هو بحد ذاته، اختيار قوي بين بدائل.

وبتعبير مختلف، هو يشكل مجازاً دقيقاً يمكن القول فيه إن laquo;الفضائيات الشيطانية للثورةraquo; قد تعمق بدلاً من أن تخفف المآسي التي وعدت تلك النزعة اليوتوبية بأن تزيلها.

فالواقع الثوري كان تعبيراً عن حالة استثنائية من التوجس، دعمته طبقة حاكمة عربية متسلطة من حيث لا تدري، وإن لم تكن ترغب بذلك، حيث ظنت تلك الحكومات أنها ترى أمامها طريقاً يخلو من أية تحديات ذات قيمة على مستوى شعوبها. وتلك هي اليوتوبيا التي تصبح فيها خياراتهم هي المستقبل الوحيد الممكن. والعقبات من كل الأنواع تتفتت بفعل التآكل الذي يحدث، لدرجة المصير الحتمي أصبح قائم تحت شعار laquo;ليس هناك من أي بديلraquo;. وتلك الرؤية أو الحقبة انتهت بمؤشرات وافرة، تدل على هشاشة تلك اليوتوبيا، فانفجار الثورات العربية تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والسياسية، ونجاح بعضها خارج كادر التدخلات الخارجية، كان بمثابة بيان بأنه حتى داخل النظام نفسه هناك البدائل الممكنة.

واليوتوبيا لا تتجاوز الاختيار لكنها تعانق، فالمخاطر المصاحبة لاقتراح نزعة يوتوبية حذرة، مخاطر جمة في الوقت الراهن. وتبني اللحظة الثورية يعني في الوقت نفسه، لا مفر من السلطوية قرار إما/ أو. لكن الخطر هو أن تمتد السلطوية إلى ما بعد اللحظة، أن تتكاثر وتصبح عادة مستقرة، أن تتمأسس وهذا الوصف يمكن أن ينطبق على التاريخ المأساوي لتاريخنا منذ عصر الخلافة، وهذه المتاهات بالتحديد هي ما تتطلب مفهوم الدفاع عن الثورة الدائمة. إذ إن تفتيت القضايا يجعل من تفتيت الاختلاف عليها، علامة على التمايز الثقافي. فهذا هو زمن إعادة الاتصال السياسي، والرؤى المتعددة للبدائل، وهو زمن اليوتوبيا المتجددة، حتى وإن كانت حذرة ونقدية.

يوتوبيا تنطوي ليس فقط على تفاؤل الإرادة، بل تنطوي أيضاً، على تفاؤل العقل، وهو أمر أصبح الحاجة الملحة للعصر.

وأحد أكثر المناطق خصوبة في النظرية الثورية اليوم، تتعلق بمسألة المقياس الفضائي. فالمقياس يعامل بصفة عامة على أنه ثابت بدرجة أو أخرى. لكنه من الناحية العملية معطى أيضاً. والمقياس لا ينظر إليه عموماً على أنه مسألة فلسفية أو نظرية مهمة، وإنما يعتبر في أحسن الأحوال، سؤالاً منهجياً، يتصل باختيار المقياس الذي يمكن للمرء من خلاله، أن ينظر إلى مشكلة ما، وأن يجري بحثاً ما. فالمناقشات حول الخصوصية والثورة، وحول مصير دولنا العربية، توحي بغير ذلك، فالمسألة لا تتحدد ببساطة في إعادة بناء الترتيب الفضائي، بل تتحدد في أن المقاييس التي يتم من خلالها تجميع تلك العمليات في وحدات فضائية مستقلة ومتماسكة ومتمايزة، إقليمية، قومية، هي نفسها تتطلب أن يعاد بناؤها.

وعلى ذلك، فالنظرية العربية المعاصرة ترى أن الشبكة التراتبية للمقاييس الفضائية، هي نتيجة للعمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهي في الوقت ذاته، فاعل يؤطر ويشكل تلك العمليات المختلفة، وصنع المقاييس الفضائية من المفترض أن يضمن هذه الاختلافات.

فالمقياس هو الوسيلة التي تستطيع المجتمعات بواسطتها أن تنتج وتنظم الاختلاف الفضائي. فإنتاج المقياس إذن ليس مجرد شيء تاريخي قابل للتحول، بل هو أمر غاية في الأهمية بالنسبة إلى السياسة. وهو البنية التحتية التي تنظم الاختلاف، محولة إياه إلى اختلاف فضائي، ثم تجعله يرتد ثانية كجزء طبيعي وثابت من المشهد الأصلي.

وعلى ذلك، فإنتاج المقياس هو وسيلة لتشكيل واحتواء الخيارات، ووسيلة لتقوية صراعات معينة في آن واحد. فعملية وضع المناقشات حول المستقبلات المحتملة في إطار مقياسي، عملية ضرورية للملاءمة المتزايدة للقيم في عالم العرب اليوم، في ظل عالم يعاني من اختلاف جذري شديد على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الشعوب وبين الأماكن.

ومسألة الخصوصيات في مواجهة الثورات، أصبحت ذات أهمية سياسية في الوقت الراهن، بالنسبة إلى الفصل في المزاعم القائمة بين مختلف الهويات المضطهدة والمهمشة والمستغلة، والأهم من ذلك، بالنسبة لأي مشروع مقترح لأنظمة بديلة. فإضفاء الطابع اليوتوبي على الثورات العربية المعاصرة، هو طابع سحري، يُعبّر عن المستقبل بلغة عالمية متخفية تحت قناع اختلاف الوقائع، ويكشف عن المدى الذي تكمن فيه مشكلة الخصوصية، في قلب أية رؤية للمستقبل المصنوع، أو المرغوب فيه. فكلنا يستطيع أن يحلم بآفاق مستقبلية شديدة الاختلاف فيما بيننا، ومعظمنا يفعل ذلك لكن: كيف نتمكن من جعل ذلك حقيقة واقعة؟

كيف يتطلب قدراً كبيراً من العمل على التوفيق بين الخصوصيات؟

إن يوتوبيات الشكل الفضائي، نجدها في ترتيبات فضائية معينة تسمح وتسهل أنواعاً معينة من التغير الاجتماعي، حيث يطلق اللعب الخيالي بالصورة الفضائية، إمكانات لا حصر لها من مختلف اليوتوبيات. ولكن الجمود النسبي للصورة الفضائية الثورية العربية له نواقصه الذاتية، وتتضمن بالضرورة عنصر تقييد. فما تحقق فعلاً من هذا النوع من اليوتوبيات أعلن إخفاقه عموماً على مذبح العمليات المعاصرة. ولكن مثل هذا النوع من النزعة اليوتوبية، قد أخفق أيضاً، وينطوي على ضرورة التغلب على الجغرافيات القائمة، والنزعة المحلية الراسخة والاختلافات الفضائية الصلبة.

فالتناقض بين العملية السياسية وبين الشكل الفضائي يمكن حله، وفقاً لليوتوبيا الجدلية، فالفكرة المتألقة حول إنتاج الفضاء تبقى في نهاية المطاف مفتوحة. إذ إن إضفاء الطابع الفضائي ينطوي على انغلاق مفروض بالقوة، على اختيار من نوع إما/ أو لبعض ترتيبات الفضاء دون البعض الآخر، وهذه الحركة قد تكون فعلاً تسلطياً في الصميم. كما أن محاولة إضفاء طابع فضائي على يوتوبية العملية الثورية من خلال تبني الاختلاف يبدو بلا نهاية، وغير محدد التكوين.

وقد يفشل أيضاً، في الاشتباك مع الاختيار الذي لا مفر منه، بين الانغلاقات والبدائل التي تصاحب تكوين البديل، أي المجالات الحيوية


منبر الحرية