عبدالوهاب بدرخان
تعلو اللهجة يوماً بعد يوم بين دول الخليج وإيران. أحداث البحرين وجدت صدى في العراق ولبنان، أي في مجال النفوذ الإيراني المتغلغل. وشبكات التجسس في الكويت كسرت شيئاً في علاقة ثقة بين الجارين كان يعتقد أنها ناجحة، أي أن قوامها الاحترام وعدم التدخل في شؤون الآخر. أما الآن فأصبح التدخل الإيراني laquo;سافراًraquo;، كما قال بيان وزراء خارجية دول مجلس التعاون. وللمرة الأولى يدور سجال على مستوى عالٍ من الحدة بين السعودية وإيران.
منذ اندلاع الانتفاضات الشعبية في بعض العالم العربي جهرت طهران للإيحاء بأن ما يحصل هو نتيجة لسياسة laquo;تصدير الثورةraquo; التي اتبعتها في العقود السابقة، كما لم تخف عزمها على استغلال مناخ هذه الانتفاضات لتوسيع رقعة نفوذها الذي بات مهيمناً على العراق، وشبه مهيمن في لبنان، ومؤثراً في الانقسام الفلسطيني من خلال laquo;التقاسم الوظيفيraquo; مع سورية في إدارة حركتي laquo;حماسraquo; و laquo;الجهادraquo;.
في غمرة موجات الاحتجاج، إذاً، اعتبرت إيران أن في الإمكان توجيه الأزمة في البحرين نحو تغيير جذري يتعلق بطبيعة النظام. وحتى الولايات المتحدة، ذات القاعدة العسكرية في المملكة الصغيرة، تعاملت مع الاحتجاجات وفقاً لـ laquo;عقيدة أوباماraquo;، فنصحت باستجابة المطالب. عملياً، كانت هناك استجابة من الحكم وكان يمكن أن تلبي نسبة مهمة من طموحات المحتجين. لكن الفصيل المتشدد، الأكثر تأثراً بالتوجيهات الإيرانية، أخطأ في laquo;إدارة الأمة،raquo; وأراد أن يحقق كل شيء قبل الدخول في حوار مع الحكم. لذا انهار الحوار وانكشف الهدف: تغيير النظام وليس تحقيق إصلاحات.
عندما أرسلت السعودية والإمارات قوات عسكرية - تبقى رمزية في أي حال - الى البحرين، بدا كأن هذه الخطوة أجهضت تحركاً آخر كانت تخطط له إيران داخل البحرين. لذلك كان رد فعلها انفعالياً، إذ تحدثت عن laquo;قوات أجنبيةraquo; واعتبرت التدخل الخليجي laquo;احتلالاًraquo;، وهو ما تبنته المعارضة البحرينية أيضاً. لكن طهران لا تجهل وجود اتفاقات مبرمة سابقاً بين دول الخليج، فضلاً عن أنها تعرف أن هذه ليست laquo;قوات أجنبيةraquo;. ثم انها راحت تلقي اللوم على واشنطن التي لم تكن موافقة على الخطوة الخليجية، ثم تكيّفت معها.
طبعاً، لا يزال المأزق السياسي ماثلاً في البحرين، ولن يكون المخرج منه إلا سياسياً، لكنه سينتظر. إذ إن حال الطوارئ غيّرت موازين القوى ودفعت الاحتقان الطائفي الى أقصاه. للأسف، كانت هناك فرصة لحوار واعد لو ترك للمعارضة المعتدلة أن تنخرط فيه من دون شروط تعجيزية، ولن تتجدد ظروف ملائمة لحوار آخر إلا بعد أن تهدأ النفوس ويحدد كل طرف الدروس التي يجب استخلاصها من هذه الأزمة لدى استشراف مستقبل العلاقة بين الحكم والشعب.
الأرجح أن إيران لم تتوقع التدخل الخليجي، أو أنها أسقطته من حسابها، وإذا كانت اعتقدت بإمكان إحراز اختراق متقدم للحكم في البحرين، فلا بد من أنها أدركت الآن أن تخطيطها كان فاشلاً. ذلك أن أي تغيير لا يتبلور إلا إذا نضجت ظروفه الطبيعية داخلياً، وحين تكون البيئة السياسية قد هيأت طرفيها للقرارات الكبيرة والشجاعة. لكن، استناداً الى ما يمكن أن تصدّره إيران، فإنها في تجارب العراق ولبنان وفلسطين شجعت الفتن وعسكرت السياسة وحرضت على مصادرة الدورة.
كان التدخل الخليجي حاسماً ومربكاً، بل لعل إيران قرأت فيه لغة جديدة، أو تحدياً مفاجئاً يجعل من أزمة البحرين إرهاصاً لمواجهة إقليمية لا تريدها، أو بالأحرى لا تريدها الآن. والأكيد أن دول الخليج لا تبحث عن مواجهة، وإنما أطلقت إشارة قوية الى إيران بأنها خالفت قواعد اللعبة في الإقليم. كل التصريحات التي صدرت عن طهران بعد وصول القوات السعودية الى البحرين، كانت تخاطب أميركا وكأن الأخيرة انتهكت اتفاقاً ما يعترف لإيران بمجال حيوي لنفوذها. وأقلّ ما فهم من الموقف الإيراني أنه لا يعترف بخصوصية التعاهدات بين دول مجلس التعاون، بل لا يعترف أصلاً بهذا المجلس. ويمكن أن يعزى ذلك الى أن الديبلوماسية الإيرانية تسعى الى تجديد مفاهيم النفوذ كما كانت أيام الشاه، قبل ثلاثة عقود ونيف، لكن الظروف تغيّرت ولم تعد دول الخليج لتوافق أو تتعايش مع وضع إقليمي سابق كانت له ظروفه.
لم يعد المعيار الأساس لاستقرار منطقة الخليج أن يوجد فيها من يمارس دور laquo;الشرطيraquo;، أصبح المعيار حسن جوار ومصالح متبادلة. ومن شأن إيران أن تعي أن تربصها العدواني سعياً الى نشر نفوذها قد لا يكون في النهاية سوى وهم، بل إن طموحاتها لم تعد متناسبة مع المتغيرات، حتى لو توصلت الى laquo;وفاق تاريخيraquo; مع أميركا. يكفي أنها، بعد الثورة وإطاحة الشاه، أضاعت فرصة تغيير مسار المنطقة نحو علاقات تعاون ولإخراج إيران من الإرث الشاهنشاهي، لكنها تذهب الآن أبعد بالإصرار على إشهار laquo;الورقة الشيعيةraquo; والعبث بها كأداة لزعزعة الاستقرار في الإقليم. وها هي تسمع للمرة الأولى تحذيراً سعودياً بأن ليس من حقها إقحام نفسها في شؤون أي دولة خليجية. وليس أمام دول الخليج خيار آخر غير تضامنها وتماسكها، لأن اختراق أي منها ستكون له أسوأ الانعكاسات على الخليج والعالم العربي.
- آخر تحديث :
التعليقات