خليل حسين
يعيش لبنان كغيره من البلدان العربية حراكاً شعبياً متدحرجاً، عنوانه إلغاء الطائفية السياسية، ودون استبعاد إسقاط النظام السياسي القائم من شعارات رُفعت بخجل، في غير موقع ومحفل .وعلى الرغم من أحقية رفع هذه الشعارات وضرورة الوصول إلى تحقيها،ثمة تساؤلات حول جدواها وقدرة اللبنانيين على الوصول إليها من دون إحداث مشكلات إضافية تزيد الأمور تعقيداً في بلد اعتاد شعبه على تضخيم الحبة إلى قبة .
فالطائفية السياسية في لبنان التي باتت من أسس نظامه الدستوري والسياسي منذ إعلان كيانه في عام ،1920 وبنص دستوري منذ عام ،1926 ذلك إذ لم نعد كثيراً إلى الوراء وبالتحديد أيام حكم السلطنة العثمانية،بات اليوم على مفترق طرق، يحاول شبابه التخلص من نظام سبب الكوارث الاجتماعية والسياسية في المجال الوطني، وغالباً ما تعدّت الخلافات الطائفية الداخلية إلى فرز فاضح، أثرّ في موقع لبنان ودوره في محيطه العربي والإقليمي .
وإذا كان الأمر يبدو بهذا التعقيد،فذلك لا ينفي ضرورة التغيير،لكن التغيير من الصعب أن يتم من دون إيجاد آليات ووسائل وطرق تضمن نجاح التنفيذ من دون تداعيات مستقبلية ربما تكون أخطر من الوضع القائم حالياً . فلبنان الذي يضم تسع عشرة طائفة معترفاً بها رسمياً، لها امتيازاتها وضماناتها الدستورية والقانونية وتشمل مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية وغيرها،الأمر الذي ينشئ واقعاً مختلفاً عند الانتقال إلى عملية التنفيذ وبخاصة إذا ما اقترن الأمر بمعضلة لبنانية أخرى لا تقل خطورة وأثراً، وهي بحجم وتعداد كل طائفة من هذه الطوائف .
وعلى الرغم من أن ثمة إجماعاً لبنانياً على أن الطائفية السياسية هي أحد الأسباب الرئيسة لمصائب لبنان، ثمة خلاف عميق حول الأحجام والأعداد، من منطلق التمثيل السياسي أو غيره . وإذا كان هذا الأمر أو الطرح هو محل احتضان من قبل طائفة العلمانيين مثلاً وهم ليسوا قلة بالضرورة، فإنه أيضاً محل اعتراض من الفئات الأخرى وهم أيضاً ليسوا بقلة، وعليه فإن أولى المشكلات التي ستعترض هذا الموضوع مستقبلاً، إمكانية القول إن إلغاء الطائفية السياسية في مواقع السلطات الدستورية والسياسية والإدارية في الدولة، فسيؤدي في النهاية إلى استئثار طائفة كبرى في مفاصل الحكم، وستعود القضية الأزمة إلى المربع الأول .
فالتركيبة الاجتماعية اللبنانية الطائفية، وحتى المذهبية، مبنية على حسابات دقيقة في الذاكرة الجماعية للبنانيين، إن كان في النظم الحزبية أو غيرها من التشكيلات السياسية، وبالتالي إن كثيراً من الشباب اللبناني الذي انخرط في الحراك القائم حالياً، سرعان ما يتحول إلى طائفته عند أي مفترق يشعر فيه، بأنه مهدد أو مهمش اجتماعياً من قبل موقع سياسي آخر ذي لون طائفي معين .
وغريب المفارقات في طبيعة هذا الحراك والقائمين فيه، أنه بدأ بمجموعات قليلة نسبياً، وسرعان ما انتشر وتوسّع بطريقة أفقية وعمودية، بمعنى أنها ضّمت شرائح شبابية لا تنتمي إلى أحزاب سياسية طائفية أو ذات ميول طائفية وجلها علمانية رغم قلتها؛ كما ضمّت جماعات حزبية انخرطت في هذا الحراك بقوة رغم لونها الطائفي . وبذلك اختلط حابل الطائفية بنابل العلمانية، ولم يعد بمقدور المراقب التمييز بسهولة بين المطالبين بالإلغاء مثلاً، وبين الممارسين أو المستفيدين من امتيازات الطائفية السياسية .
إن التدقيق في جميع البرامج والأدبيات السياسية الحزبية اللبنانية تظهر ابتعادها التام عن ملامح الطائفية، بينما يظهر بوضوح وجلاء تام، أن معظم منتسبي أو مناصري هذا الحزب أو ذاك هو من لون مذهبي معيّن، والكل سواسية في رفع الصوت عالياً لإلغاء الطائفية، وفي نفس الوقت تستشرس في الدفاع عما تعتبره حقاً مكتسباً في توزيع المناصب القيادية السياسية والإدارية وصولاً إلى أدنى فئات الموظفين رتبة، على قاعدة من حضر السوق الطائفي باع واشترى فيه .
فعلاً إنه واقع مزرٍ وخطير، لكن الأكثر خطورة، أن يتحوّل هذا المطلب المحق والضروري التحقيق في عالم القرن الواحد والعشرين، إلى الكلام الحق الذي يراد به باطلاً، وهو تفريق اللبنانيين مرّة أخرى حول موضوع لم يتمكنوا من البت فيه على مدى عقود طويلة،فكيف وهم يمرون بظروف هي أحلك ما مروا به في تاريخهم السياسي المعاصر؟ .
ينبغي أن يكون مطلب إلغاء الطائفية السياسية عنواناً لبرنامج وطني كبير قابل للتحقيق على قاعدة الرغبة والقدرة في آن معاً من قبل جميع اللبنانيين، سيما أن هذا الأمر منصوص عليه في الدستور أيضاً من خلال تعديلات ،1990 والذي لم ير النور حتى الآن رغم المحاولات الحثيثة من قبل البعض . الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة حول صدقية الرغبة وأساسها وبالتالي القدرة على ترجمتها واقعاً ملموساً .
لقد عانى اللبنانيون من انقسامات حادة وقوية حول أمور تعتبر ثانوية في حياة الشعوب والمجتمعات، ويأتي الحراك الشبابي اللبناني اليوم ليرفع شعار يعتبر من الثوابت في الحياة السياسية اللبنانية،فهل سيكون هذا المطلب وهذا الحراك مشروع انقسام وقتال لعشرين سنة قادمة كما تعوَّد عليه اللبنانيون سابقاً .
يعتبر لبنان من بين الدول القليلة بل النادرة التي ما زالت تمارس حياة سياسية قائمة على عقلية العصور الوسطى، إن لم تكن الحجرية، إذا جاز التعبير، وقد جاء فيه اليوم الذي ينبغي على اللبنانيين التفكير بالآليات التي ينبغي فيها الانتقال إلى المستقبل بدل التلطي والاختباء في مجاهل الماضي، فإلى أين يسير شبابنا؟ هل سيصنعون بلداً عجز جيلنا عن تحقيق القليل من الآمال فيه؟ أم سيسقط مرة أخرى كما سقط غيره في الخلاف والانقسام والاقتتال؟ الجواب مرهون بحكمة شِيب السياسة إن وجدت، وهمة الشباب إذا اجتمعت .
التعليقات