إياد الدليمي

لم تنفك الحكومات العربية التي شهدت ثورات شعبية تتحدث عن المؤامرة ونظريتها في محاولة منها للخروج من عنق الزجاجة التي وجدت نفسها فيه، معتقدة أن ذلك قد يشكل لها قارب النجاة، دون أن تدرك أن الزمن قد تجاوزها، وما عاد في الإمكان خداع الشعب الذي ظل سنوات وعقود طويلة يتوهم أن العالم، كل العالم، يتآمر عليه وعلى حكوماته.
ولم تكن سوريا استثناء من ذلك، فلقد حشد النظام السوري كل أجهزته للرد على المؤامرة التي تنفذها أجهزة أمنية معادية ودول خارجية لإسقاط نظام المقاومة والممانعة، فتارة تتهم جماعات مندسة مدفوعة من قبل تيارات معارضة، وتارة أخرى تلقي بالتهمة على إسرائيل والسعودية وتيار المستقبل اللبناني، فيما تعرفه أجهزة الإعلام السورية بخطة بندر- الحريري، وهكذا دون أن تتمكن حتى اللحظة من إقناع الشعب السوري بمصداقية ما تقول.
مخطئ من كان يعتقد أن سوريا بعيدة عما يجري في المنطقة من تحولات، ومخطئ أكثر من يرى أن النظام في سوريا قادر على التصدي لمطالب الشعب سواء بالقوة والقمع أو بحزمة إصلاحات يمكن أن تهدئ من ثورة الناس، فالأيام الماضية تؤكد مجددا أن لا نظام عربيا يمكن له أن يستفيد من تجارب سابقيه، فها هي الجماهير السورية، ورغم كل عمليات القتل والترويع والاعتقالات العشوائية، تواصل تحديها مطالبة النظام بالإيفاء بتعهداته التي قطعها قبل نحو 11 عاما، وإجراء الإصلاحات اللازمة، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
إن المتآمر الحقيقي على سوريا، حكومة وشعبا، هو تلك الجوقة التي غالبا ما ترفض رؤية الحقيقة، وتسعى إلى الهرب للأمام كلما تقدم الشعب باتجاه حقوقه ومطالبه، فبدلا من أن تجلس مع الشعب وتستمع إليه، تدفن رأسها في الرمال معتقدة أن قليلا من المظاهرات المطالبة بالإصلاح يمكن أن تتوقف لو استخدم النظام قبضته الحديدية.
المتآمر الحقيقي على سوريا، هو ذاته الذي تأمر على نظام حسني مبارك في مصر، وأعتقد أن موقعة الجمل في ساحة التحرير سوف تنهي الثورة، فإذا بها رصاصة الرحمة الأخيرة التي أطلقها على النظام ورأسه.
في سوريا، كان بالإمكان ومنذ الأسبوع الأول أن تنتهي التظاهرات لو أن النظام تفهم ما يجري في شوارع درعا ودمشق ودوما واللاذقية، ولم يكابر، لو أن النظام أعلن بقرارات جريئة إلغاء حالة الطوارئ المعمول بها منذ 40 عاما، والسماح بالتعددية الحزبية وسن قانون حرية الإعلام، وتعديل الدستور، خاصة الفقرة التي تنص على أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحاكم للبلاد، وإعلان موعد لانتخابات رئاسية، مع شروط مخففة لمن يريد أن يترشح، والإفراج عن نشطاء الرأي العام المعتقلين في السجون السورية.
ماذا كان يمكن أن يحدث لو فعل النظام ذلك؟ لا أعتقد أن متظاهرا واحدا كان سيبقى في شوارع المدن السورية، وستتحول مظاهرات الغضب إلى مظاهرات فرح وتأييد للنظام، بيد أن ذلك لم يحصل ولا يمكن أن يحصل، والسبب ببساطة أن تلك الأنظمة لم تصل إلى حكم الشعب بأصوات الشعب، وبالتالي فإنها لا ترى الشعب، فكيف لها أن ترى مطالبه.
على النظام السوري أن يفهم أن أساليب القمع والاعتقال والسيناريوهات المفبركة باتت موضة قديمة، فهي لم تنفع بن علي في تونس أو مبارك في مصر ولا حتى علي عبدالله صالح أو القذافي، وأن الشعب السوري مثله مثل كل الشعوب العربية لا يبحث إلا عن حريته وكرامته بعيدا عن أية مؤامرات أو خيانات.
لا أحد يريد أن يفهم أن ما يجري اليوم غير ما جرى قبل عقود من الزمن، وأن الاتهامات ونظريات المؤامرة التي سوقتها تلك الأنظمة على شعوبها ما عادت تجدي نفعا، فلقد بلغت الشعوب سن الرشد وصار بإمكانها أن تختار مصيرها وتفرز صالحها من طالح الأنظمة، وعليه فإن مرحلة اليوم يمكن أن نطلق عليها اسم مرحلة التحرر الثانية التي تعيشها الشعوب العربية.
فبعد أن تحقق الاستقلال من الاستعمار الخارجي مطلع ومنتصف القرن الماضي، ها هي الشعوب العربية التي تنتفض لتختار مصيرها باحثة عن غدها بعيدا عن وصاية الأنظمة، راسمة طريق تحررها من استعمارها المحلي.
أكيد أن هناك مؤامرة على سوريا، مؤامرة من داخلها، من ذلك الخطاب الرسمي المتخشب الذي لم يستشعر مدى حاجة البلاد إلى الخلاص، مؤامرة من تلك العقول التي توهمت أن ما يجري يمكن أن ينتهي بقليل من القمع والاعتقال، مؤامرة من تلك النظرية الأمنية التي تعتقد الأنظمة أنها صالحة لكل زمان ومكان، ناسية أن الزمن قد غادرها وأخذ معه كل عتيق وقديم من أساليب قمعها المتوارثة.
المتآمر الحقيقي على سوريا اليوم، هو كل من اعتقد للحظة أن ما جرى في المنطقة لا يمكن أن يصل العرين الدمشقي، لاعتبارات اعتقد وتوهم للحظة أنها يمكن أن تنجيه.