يوسف أباالخيل


إفشال الأحلام الإيرانية لن يتأتى إلا إذا نزعنا تلك اللفافة المذهبية البراقة, وأبنَّا ما بداخلها من نفعية سياسية تشكل الغاية من وراء كل الوسائل المستخدمة وعلى رأسها الوسيلة المذهبية.

من فضول الكلام القولُ إن إيران تشكل اليوم اللاعب الطائفي الأول في العالمين, العربي والإسلامي. لكن طائفيتها الظاهرة تخفي وراءها مشاريع سياسية هي الغاية والأصل من امتطائها ظهر الطائفية. هذا يعني أن هذا الامتطاء لا يمتح تأثيره من غاية عقدية بحتة, بقدر ما يمتحه من استغلال أرضية مشبعة بتغول مذهبي ضارب في قدم التاريخ الإسلامي. ذلك أن اللعب على تناقضات الصراعات المذهبية, ورمي الورقة الطائفية في ميدان اللعب السياسية, خاصة الورقة السنية الشيعية, ظل وسيلة مفضلة طوال التاريخ الإسلامي, من فجره, مروراً بضحاه, وحتى عصره الحاضر.

ولعل الإشكالية التي تصاحب الأزمات التي تختلقها إيران في المنطقة حالياً بفضل استخدامها الورقة الطائفية, وتحديداً: الورقة الشيعية, تكمن في النظر إلى المشروع الإيراني على أنه محض مشروع عقدي, يأخذ على عاتقه نشر المذهب الشيعي الإمامي الإثني عشري, وإلى نصرة أتباعه ممن يشكلون أقلية أو أكثرية في طول البلاد الإسلامية وعرضها, وعلى وقع هذه النظرة القاصرة جند الموتورون والسذج والتقليديون أنفسهم لمناهضة المشروع الإيراني من زاوية عقدية فحسب, وبعضهم مد هذا التجنيد عرقياً نحو الفارسية والفرس بصفتهما عدوين للعربية والعرب!. نعم, إيران تتزعم العالم الشيعي عموماً, ومن يدينون بالمذهب الإمامي الإثني عشري خصوصا, كما تعلن بلحن القول وصريحه أنها تقف بجانبهم باعتبارهم طائفة مهضومة الحقوق, وسط ما تعتبرها سياقات سنية مسيطرة, سياسياً واجتماعيا. وأكثر من ذلك, فهي تسعى إلى نشر هلال شيعي يلتف بمعصمه القوي حول المنطقة, كما تسعى إلى فرض التسمية الفارسية على الخليج العربي وعلى الجزر التي تحتلها, ذلك كله مما لا خلاف عليه,. لكن ما يجب التأكيد عليه أن ساسة إيران, إذ يستخدمون الورقة الشيعية بالذات, فهم لا يهدفون إلى دعم, أو نشر المذهب الشيعي كغاية بحد ذاتها, وفق قناعات عقدية بحتة, بقدر ما تستتر مقاصدهم السياسية البحتة خلف استبطان المذهب الشيعي الذي يؤدي دوره في الطموحات السياسية الإيرانية كوسيلة,ربما من عدة وسائل.

والنتيجة أن التصدي للأطماع الإيرانية لن يتأتى في تقديري من استدعاء الفزاعات العرقية, بالتركيز على ما يقال إنه حقد فارسي على العرب, أعقب الفتح الإسلامي لبلاد فارس, ولا من استدعاء الفزاعات المذهبية, بالتركيز علىquot;خطرquot; التشيع على المجتمعات السنية. هذا وذاك, إذ هما لا يمدان بسبب إلى المنبع الذي تستقي منه الإيديولوجيا الإيرانية حيويتها, فإنهما لا ينفكان عن خلق مزيد من الاصطفاف العدائي للعرب والسنة على حد سواء. ذلك أن مثل هذا التعميم الفج يجر من ورائه فُرْساً ليسوا على وفاق مع سياسة ملالي طهران,لاسيما ونحن نعلم أن طوائف عديدة من الشعب الإيراني(الفارسي) نفسه ترفض سياسة الحكومة الإيرانية, مثلما يجر طوائف من الشيعة الإمامية الإثني عشرية داخل البلاد الإسلامية وخارجها ممن لا يرون أن إيران تمثلهم عقدياً, ناهيك عن أن يوافقوها في إدارتها لسياستها الخارجية وفق آلية التشييع السياسي. هذا التعميم يجر هؤلاء وأولئك ليكونوا في خانة أعداء المجتمعات السنية والعربية رغماً عنهم عندما يجدون أنفسهم وقد اٌعتبروا جزءاً لا يتجزأ من السياسة الإيرانية!.

وإذا كان هذا وذاك كلاهما غير مجد في كبح جماح الأحلام التوسعية لمعممي طهران, وإذا كنا نعلم اليوم يقيناً أن الحكومة الإيرانية تُسوِّق أضغاثها البدائية الغرائزية ملفوفة لا بلفافة عرقية, فذلك ما لا يجدي وسط محيط عربي كبير, بل بلفافة مذهبية وسط بيئة تستجيب لأدنى الغرائز على وقع استصحاب أي حديث أو خلاف مذهبي , فإن إفشال هذه الأحلام لن يتأتى إلا إذا نزعنا تلك اللفافة المذهبية البراقة, وأبنَّا ما بداخلها من نفعية سياسية تشكل الغاية من وراء كل الوسائل المستخدمة وعلى رأسها الوسيلة المذهبية. والسؤال هنا هو: كيف يتم ذلك؟ أعني كيف يمكن لنا أن ننزع اللفافة المذهبية وصولاً إلى ما يختبئ تحتها؟.

في تقديري, إن الوسيلة المثلى للوصول إلى ذلك المبتغى تكمن في استنطاق موضوعي لأحداث التاريخ الإسلامي, منذ وقعتي الجمل وصفين خاصة. إن قراءة موضوعية من هذا النوع ستظهر لنا أن الانشطار السني الشيعي بدأ سياسياً خالصاً ثم انتهى عقدياً محدثاً أكبر انشقاق عرفه تاريخ المسلمين. ولمعالجة هذا الانشقاق وما ترتب, و يترتب عليه من ولاءات واصطفافات سياسية ملتحفة بالرداء المذهبي, كما تعمل إيران اليوم, فلا بد من قلب المعادلة في وجه ذلك الانشقاق ومترتباته, بإعادته إلى جذوره السياسية التي تخلَّق منها. ولا يتم ذلك إلا باستنطاق التاريخ استنطاقاً موضوعياً بلا مداراة, أو مواربة.

الحق الذي لا مجمجة فيه أن الانشطار السني الشيعي بدأ مسيرته التاريخية من داخل السياسة, ووفقاً لمنطقها, وخدمة لمقاصدها. كانت وقعتا الجمل وصفين حاضنتين أساسيتين لذلك الانشطار. النتيجة التي انتهت إليها كلا المعركتين أسفرت عن تشكل حزبين سياسيين رئيسيين, هما: حزب أهل السنة والجماعة, وحزب شيعة آل البيت, يفترقان (أفقياً) عما حف بهما من أحزاب سياسية أخرى لم تكن على مستوى حضورهما السياسي, كالحزب الخوارجي(= نسبة إلى الخوارج). كان الحزب الأول قد ربح الحرب, وبالتالي, المجال السياسي, فكان من الطبيعي وفقاً لمنطق السياسة أن يفرض إيديولوجيته. إحقاقاً للحق, لم يتبنَّ الحزب الغالب إيديولوجيا دينية بحتة ليبرر بها انتصاره, بل لقد انتهج إيديولوجيا يغلب عليها طابع مدني اجتماعي يتوسل منفعة حاضرة. نجد ذلك واضحاً في خطاب رأس الدولة الأموية الغالبة: معاوية بن أبي سفيان حين قدم المدينة بعد سكون عواصف الحرب واستتاب الأمر له, إذ خطب الناس قائلاً:quot;أما بعد, فإني ما وليتها(= الخلافة) بمحبة علمتها منكم, ولا مسرة بولايتي, ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة, إلى أن قال:... فسلكت بها( يعني نفسه) طريقاً لي ولكم فيه منفعة: مواكلة حسنة ومشاربة جميلة. فإن لم تجدوني خيركم فإني خيركم ولاية. والله لا أحمل السيف على من لا سيف له. وإن لم يكن لكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه, فقد جعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي( = حرية التعبير والكلام والتجمعات دون التعرض للسلطة). وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه. فإن أتاكم مني خير فاقبلوه, فإن السيل إذا زاد عنى, وإذا قل عنى. وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمةquot;. نحن هاهنا أمام برنامج عمل سياسي ليبرالي, على مستوى المجتمع خاصة. برنامج لا يتضمن استصحاب أي فزاعات دينية أو مذهبية. أما من جانب الحزب الآخر الذي خسر المعركة, فلئن كانت إيديولوجيته السياسية خاصة في الفترة التي أعقبت ما يرمز له في الذاكرة السنية بquot;عام الجماعةquot; تعتمد بشكل أساسي على مطالبته بquot;حق آل البيت في السلطةquot;, ولئن كانت تلك الإيديولوجيا لم تخلُ من بطانة دينية ضرورية, إلا أنها في روحها العامة, كانت سياسية الطابع.

فيما بعد, ركن الحزب المهزوم إلى ما يمكن أن نطلق عليهquot; تديينquot; الحزب بدلاً منquot; تسييسهquot;, ومن ثم تحول إلى مذهب له بنيته العقدية أولا, ثم الفقهية لاحقا. هذا لا يعني أن المناوشات التي كان يقوم بها الطالبيون ضد الدولة الأموية, والعباسية فيما بعد, لا تستخدم البعد الديني, كحركة المختار بن عبيد الثقفي, إلا أن الباحث اليقظ يستطيع أن يزعم أنquot; تديينquot; الحزب الشيعي, ومن ثم تحويله فيما بعد إلى مذهب عقدي خالص, بدأ تحديداً بعد كارثة كربلاء, تلك الكارثة التي أقنعت منظري الحزب(= المذهب فيما بعد) بضرورة الانسحاب, ولو مؤقتاً من حلبة الصراع المسلح على السلطة, والركون إلى حلبة الصراع الفكري للتنظير لquot;حصريةquot; الفرقة الناجية,أملاً في الوصول إلىquot;حصريةquot; الحق السياسي فيما بعد. وكان من الطبيعي أن يستنجد الحزب السني بما يستطيع أن يستنجد به من أدبيات دينية للتنظير لquot;حصريتهquot; هو الآخر, طالما أن الحزب المعارض جره إلى تلك الساحة.

المفكر العربي المعروف عبدالرحمن بن خلدون أكد من جهته هذه الحقيقة, حقيقة البعد السياسي البحت للصراع السني الشيعي, أو الأموي الهاشمي. فلقد أشار في مقدمته إلى أن العصبية التي فازت آنئذ كانت العصبية الأموية,لا لأنها الأفضل من الناحية الدينية ,بل لأن عصبية قريش كانت قد انتقلت إليها لأسباب دنيوية خاصة. فيما لم تكن العصبية الهاشمية, المنافس الرئيس لها, ذات وضع عصبي يمكنها من الفوز بالسلطة, بعد انفضاض الناس عنها, بعد أن طال بهم عهد النبوة والخلافة الراشدة.