علي الغفلي
اختار الزعيم معمر القذافي للدولة الليبية أن تكون مختلفة في كل شيء تقريباً، ولم يخرج هذا القطر العربي عن الشكل الذي رسمه لها قائدها من حيث تركيبة الدولة، أو نظام الحكم، أو العلاقة بين الحاكم والشعب . وفق مخيلة قائدها، ليبيا ldquo;جماهيريةrdquo; فريدة وليست مجرد جمهورية اعتيادية، تدير شؤونها ldquo;اللجان الشعبيةrdquo; المبتكرة وليس السلطات التقليدية، قائدها هو ldquo;أخrdquo; لأفراد الشعب، وليس رئيساً ذا منصب في الدولة .
ماذا تعني هذه المفاهيم الغريبة من الناحية الاصطلاحية في عالم السياسة، الجماهيرية واللجان الشعبية والقائد الأخ، والتي ظلت تقوم عليها الدولة الليبية لفترة طويلة؟ وما هو وجه العبقرية في ادعاء وجود الاختلافات الجوهرية بينها والمفاهيم المعتادة التي درجت على استخدامها دول العالم الأخرى؟ سرعان ما تنقلب محاولة البحث عن إجابة ذات مضامين موضوعية مقنعة عن السؤال الأول إلى مجرد عبث، بينما سوف يدعم الجهد من أجل الإجابة عن السؤال الثاني الاعتقاد أن تعريف وتصميم كل من الدولة ونظام الحكم في ليبيا لا يجسدان في حقيقة الأمر سوى أكذوبة كبرى، تهدف في الأساس إلى بناء دولة الطغيان والحكم المستبد المستدام .
وهكذا كان الأمر بالفعل، طيلة أكثر من أربعين سنة، راح خلالها الشعب والدولة ضحية أوهام الاختلاف التي اصطنعها الزعيم معمر القذافي في كل شيء، في منهج التنمية، والمؤسسات السياسية، وأساليب القيادة . ولكن لم تنجح هذه الغرابة المبهمة في تحقيق وهم الفرادة التي سعى إلى تحقيقها الزعيم الليبي، ولم تسهم أيضاً في صياغة شرعية نظام القذافي في أذهان ووجدان الشعب الليبي .
لقد استمرت ليبيا القذافي مثالاً هزلياً في أنماط الدولة والحكم والقيادة، ولم يخف المثالب الفادحة في بناء الدولة وشرعية المؤسسات ورشد السياسات سوى وجود ليبيا في وسط محيط عربي يضم دولاً لا تختلف عنها كثيراً في الجوهر . ما الفرق بين الجماهيرية الليبية وأخواتها من الجمهوريات العربية خاوية المضمون؟ وهل تتميز السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية المعهودة في الدول العربية بأية ايجابيات مهمة حين مقارنتها بالمؤتمر الشعبي أو اللجان الشعبية الليبية من حيث الأدوار والشرعية؟ وهل تبدو السياسات الداخلية والخارجية في معظم الدول العربية الأخرى أكثر عقلانية وكفاءة من سياسات الأخ القائد في ليبيا؟
من الناحية العملية تمثل ليبيا الآن واحدة من بين أربع حالات حاسمة من التحولات السياسية العربية، إلى جانب تونس ومصر واليمن . بيد أن الحالة الليبية مختلفة، لأنها تجسد الاحتمالات الأكثر خطورة في المراحل المفصلية أثناء انهيار النظم المستبدة والتحول إلى الديمقراطية، إذ إن قدرات المعارضة الثائرة أقل من القدرات العسكرية المتوفرة لدى نظام القذافي، والدعم الدولي الذي تتلقاه هذه المعارضة ممثلة في الثوار والمجلس الانتقالي من النواحي المعنوية والمادية لايزال قاصراً، والدولة صارت تشهد حرباً داخلية فعلية استدعت تدخلاً أجنبياً عسكرياً يعد غامضاً من حيث الأهداف والأداء، وحلف الناتو العملاق لايزال يبدو عاجزاً عن إلحاق الهزيمة العسكرية بقوات النظام بعد مرور نحو شهر من بدء هجماته . لقد انهار نظام القذافي من ناحية المضمون، ولم يعد أحد في داخل ليبيا يقبل أن يستمر في البقاء على سدة الحكم بعد نحو أربعين سنة من ممارسات استبداد السلطة وتبديد الثروة، ولا يتصور أحد خارج ليبيا أن يستمر نظام القذافي في حكم ليبيا بعد أن شرع في قتل شعبه، ولم يتبق سوى أن يزول أو ينسحب هذا النظام من المشهد السياسي، وإلى أن يحدث ذلك فإنه سوف يستمر في استخدام إمكاناته العسكرية الشرسة ضد المدنيين الليبيين والثوار المحاربين .
من المؤكد أن العقيد القذافي لم يشأ أن تنتقل عدوى الاحتجاجات الشعبية إلى بلاده، ولكن يبدو أنه يستفيد على الأقل من بعض التفاصيل المهمة خلال هذه المرحلة . تشمل هذه التفاصيل جوانب حرجة، لعل أهمها تلك التي تتعلق بغموض الفهم الصحيح لجوهر التفويض الذي منحه قرار مجلس الأمن للتحرك الدولي في ليبيا، والشك الذي يكتنف مدى التزام دول حلف الناتو بالمضي إلى أبعد الحدود من أجل هزيمة قوات القذافي، وتهرب إدارة أوباما من لعب دور قيادي في الجهد العسكري الذي يقوم به الحلف حالياً، وتواضع الإسهام العسكري من بعض دول الناتو مثل بريطانيا التي صرحت بأنها قد استهلكت نحو خمس مخزونها من صواريخ توماهوك خلال نحو أسبوع منذ بداية عمليات الحلف العسكرية ضد أهداف في ليبيا، إضافة إلى اشتباه الدول الغربية في احتمال أن تتوغل عناصر من تنظيم القاعدة من أجل السيطرة على ليبيا أو جزء منها في حال سقوط نظام القذافي .
إن الشعب الليبي الكريم يستحق ما هو أفضل من كل ذلك . يستحق هذا الشعب قيادة جديدة، ديمقراطية ورشيدة، بعد أن ابتلي بزعيم اصطبغت شخصيته وأفكاره وسياساته عملياً بالتهريج في الساحتين المحلية والدولية طيلة أربعة عقود، تحول خلالها إلى طاغية عتيد، يحرص على توريث السلطة إلى أبنائه، الأمر الذي يتهدد الشعب الليبي بعقود قادمة من حكم الطغيان . ويستحق هذا الشعب تدخلاً عربياً ودولياً أكثر فاعلية، وينحاز إلى مصالح الليبيين، وبالطريقة التي يختصر من خلالها مسار المعاناة الأمنية والإنسانية التي تمر بها الدولة والشعب في المرحلة الصعبة الراهنة، ويجتهد من أجل ضمان بناء ليبيا مختلفة، دولة وطنية طبيعية، ذات مؤسسات سياسية حقيقية، وقيادة ديمقراطية رشيدة .
التعليقات