رياض نعسان أغا


سيكتب المؤرخون لاحقاً أن عام 2011 كان عام ولادة أمة عربية جديدة، ورغم أن هذه الولادة جاءت قيصرية، إلى درجة تهديد الأم بالموت، فإن العناية المشددة من قبل الحكماء لابد أن تحافظ على الأم وعلى الجنين أيضاً. ولم يكن مفاجئاً أن تصل رياح التغيير إلى سوريا، فكلمة التغيير كانت على ألسنة السوريين منذ أواخر القرن الماضي، وقد بدأ السوريون ترقبها منذ التغييرات الدولية الكبرى التي عاشتها دول الاتحاد السوفييتي سابقاً.

ورغم أن ملامح التغيير الذي يريده السوريون لم تكن واضحة تماماً، فإن الحديث الهامس حيناً والمسموع حيناً آخر كان يحرك العجلة، ولكن ببطء وحذر شديدين، كانت الرغبة الجادة في التغيير أو لأقل الحلم به هي التي قادتني شخصياً إلى معترك السياسة الذي ابتعدت عنه سنوات طويلة من قبل، فلم أنتسب لحزب سياسي رغم اشتغالي بالإعلام سنوات طويلة تفرغت فيها للعمل الثقافي، لكنني رشحت نفسي لانتخابات مجلس الشعب عام 1990 حين تفاءلت بالتغيير، يومها أضاف الرئيس الراحل حافظ الأسد مقاعد للمستقلين، وكنت أحد الفائزين عنهم، وكان يتصدر بياناتنا الانتخابية عزمنا على العمل لرفع حالة الطوارئ، وعلى ترسيخ سيادة القانون، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وتعزيز العدالة الاجتماعية.

وسأعترف أن تجربتي كانت فاشلة جداً، فلم نستطع (نحن المستقلين) أن نحقق إنجازات برلمانية، لأن الكثرة غلبت الشجاعة، ولم أعد إلى البرلمان في دورته اللاحقة، بل كتبت يومها (إنني دخلت مجلس الشعب حاراً وخرجت منه بارداً)، وبقي الدور التشريعي الخامس في ذاكرتنا بداية حركة تغيير على مستوى النخبة الإيجابية التي أرادت الإصلاح من الداخل، والتي آثرت أن ترى نصف الكأس الملآن بدل رؤية نصفه الفارغ، وكنا نخبة من الأكاديميين والمثقفين المستقلين الذين لم يعد كثير منهم إلى المجلس، لكنهم عادوا مرة أخرى إلى الأمل والتفاعل مع الممكن مع إعلان الدكتور بشار الأسد عن مشروع إصلاحي منذ أواسط التسعينيات، وبدا الأفق مفتوحاً للتفكير بحرية عبر الحوارات الطويلة التي خاضها مع كل الفئات، لكن الطريق لم تكن سالكة، فقد كان هناك من يرفض حرية الكلمة بذريعة الخوف مما سمي يومها (الجزأرة) التي تذكر بما حل بالجزائر مطلع التسعينيات، ورغم أن مشروع الإصلاح لم ييئس، لكنه أضاف سريعاً كلمة مناقضة لشعاره فبات عنوانه (التغيير مع الاستمرار)، أي مع الثوابت الوطنية والقومية ومع موقفنا السياسي الخارجي، وتركز التغيير على الآليات والأساليب في السياسة الداخلية، وعلى علاقة الحزب بالسلطة، وعلى القوانين والأنظمة التي كان بعضها ما يزال ساري المفعول منذ عهد العثمانيين، وعلى توسيع إطار المشاركة السياسية وفتح الآفاق أمام جيل جديد لم يتح له آباؤه الذين أمسكوا بالسلطة والمواقع الحساسة دهراً أن يتقدم خطوة واحدة نحو موقع مسؤولية أو مشاركة.

ولم يكن سهلاً أن يقتنع بعض المسؤولين بضرورة التغيير، ولاسيما بفتح بنوك خاصة وشركات تأمين واستقدام استثمارات عربية أو أجنبية. لكن حركة التغيير كانت جادة، وقد انطلقت بقوة مع استلام الرئيس بشار، وكانت حرية الرأي والتعبير مبشرة لدرجة أن الشباب سموها ربيع دمشق، أما كيف تحول هذا الربيع سريعاً إلى خريف أو شتاء، فهذا حديث يطول، ولا تتسع له هذه المقالة، وهو أمر مفجع أن يكبت التغيير في مطلعه، وكنت أخاف على مشروع الإصلاح أن يضيع في زحام العمل الحكومي اليومي وأن تخطفه أيدي المستفيدين من إعاقته.

وكان من سوء حظ المشروع الإصلاحي وقوع جريمة سبتمبر وتداعياتها بعد عام من ولادته الطبيعية، حيث وجدت سوريا نفسها مشغولة على الدوام بصد الكرات التي تهاجم مرماها، وبعضها كان مريعاً، مثل غزو العراق ومثل جريمة مقتل الحريري التي استنفدت كثيراً من الجهد والصد، ثم جاءت حربان كبيرتان تشعلان النار على أبواب سوريا التي كانت طرفاً رئيساً فيهما رغم كونها خارج الملعب نظرياً (حرب تموز، والحرب على غزة ). وكانت بعض أجهزة الأمن تستعيد حضورها بقوة في تلك الظروف الصعبة بعد أن تراجعت عن التدخل فيما هو ليس من وظيفتها الأساسية، ولم نكن نرغب نحن السياسيين المدنيين بأن يعود نمو الدولة الأمنية، فقد ضاقت به الدولة سابقاً، لدرجة أنني قدمت في أواسط التسعينيات على شاشة الفضائية السورية ندوة كبيرة حول (الدولة الأمنية في سوريا) في برنامج سميته (دعوة إلى الحوار) شارك فيها عدد كبير من الشخصيات العامة، وقد أشاد الرئيس الراحل يومها بهذه الندوة، وحمتني إشادته من المساءلة، وما أظن أن رجال الأمن اليوم يريدون تحمل مسؤوليات ينبغي أن يحملها السياسيون، أو مسؤوليات حكومية هي من مهمة هيئة الرقابة والتفتيش، فمهمتهم أن يحافظوا على أمن الوطن، وليس أن يرسموا وحدهم سياساته، ولا أن يتحملوا أمام الشعب مسؤوليات تاريخية، فمن ذا يريد أن يكون مسؤولاً في ساحة دم وطني؟ ولن أناقش هنا ما حدث ويحدث اليوم فدم الشهداء يغتلي في قلوب السوريين جميعاً، وهم يعلنون تمسكهم بالوحدة الوطنية ورفضهم لأية دعاوى طائفية أو مذهبية لا أساس لها ولا حضور في الوجدان العام، وهم ينتظرون المعالجات السياسية الناجحة، ويخشون من المعالجات الأمنية في بلد اعتاد شعبه على الاستقرار والطمأنينة، مع تقديري لما قد تحدثه الفوضى من ارتباك واضطراب ربما كان ممكناً تفاديهما بفن السياسة وإبداع المبادرة. وحسبي أن أؤكد على حاجتنا الماسة لدعوة مفتوحة إلى الحوار لا يستبعد عنها أحد، دون إلغاء أو إقصاء ، فالحوار الشفاف وحده هو الطريق إلى اقتحام الواقع ورسم المستقبل، وإيقاف نزيف الدم فوراً ومحاسبة المسؤولين عن إهراقه، والتوقف عن الإثارة والاستفزاز في أي شعار يطرحه المتظاهرون الذين أقرت القيادة بمشروعية مطالبهم. ومع صدور المراسيم التي أعلنت عنها الحكومة الجديدة سيكون الحوار على أرضية الثقة، التي ينبغي أن تكون هي منطلق الحوار، وأنا متفائل بنجاحه حين يقوده الرئيس الأسد بروح انتمائه إلى جيل الشباب الثائرين المتطلعين إلى التغيير في سوريا وفي الوطن العربي.