محمد السمّاك

أي مصر بعد الرئيس حسني مبارك؟
أي دور للجيش، والى متى يمكن أن يستمر هذا الدور؟ وكيف؟
للإجابة على هذه الأسئلة ذهب المؤرخ الأميركي استاذ التاريخ في جامعة هارفرد الأميركية توبي ويلكنسون ثلاثة آلاف سنة الى الوراء، بحثاً عن نماذج وأمثلة.
وجد المورخ حوادث مشابهة ترتبت عن فراغ مفاجئ في السلطة. فالملك الشاب اليافع- توت عنخ آمون، مات فجأة ولم يترك وراءه خليفة لتولي السلطة، فبادر الجيش الى ملء الفراغ للمحافظة على الأمن وتأمين الاستقرار.. كان ذلك قبل ثلاثة آلاف عام.
وهناك حادث مشابه آخر. فعندما قتلت (أو انتحرت) كليوباترا في العام 30 قبل الميلاد، تركت فراغاً في قيادة الدولة، سارع الجيش أيضاً الى ملئه والى ادارة الشؤون العامة.
وفي اعتقاد الدكتور ويلكنسون ان المصريين القدماء هم أول من ابتكر ومارس فكرة الدولة الأمة. وذلك من خلال توظيف ثلاثة عوامل معاً من شأنها أن تجمع الشعب حول السلطة. وهذه العوامل هي الدين والجيش والانتماء.
فقد كانت الاحتفالات الدينية والاستعراضات العسكرية تغذي الشعور بالانتماء وتعززه. وهذا ما تواجهه مصر اليوم أيضاً بعد الرئيس السابق حسني مبارك. كذلك كان جهاز الأمن يلعب دوراً رئيساً في تركيب قواعد هذه العوامل الثلاثة. حدث ذلك في عهد توت عنخ آمون، وحصل في عهد الملك فاروق، وفي عهد عبد الناصر، ثم في عهدي أنور السادات وحسني مبارك.
وهناك عامل آخر قديم جديد أيضاً. فمصر بحكم جغرافيتها المنبسطة كانت ولم تزل صحراء مفتوحة في الجنوب، يجري عبرها نهر النيل الى المتوسط. وكانت هذه الجغرافيا تشكل منطقة جذب وإغراء للتدخل الخارجي، وذلك لاستغلال موقعها المميز بين آسيا وافريقيا. وربما كان هذا الواقع أحد العوامل التي شجعت عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب على فتح مصر. طبعاً كانت هناك أسباب مشجعة عديدة أخرى، في مقدمها حمل الدعوة الاسلامية، ومنها كذلك توظيف اضطهاد البيزنطيين للأقباط المصريين في عملية تسهيل الفتح. ولذلك بادر ابن العاص الى بناء كنيسة قبطية الى جانب المسجد الأول في مصر الذي بناه في ضاحية القاهرة والذي لا يزال حتى اليوم يحمل اسمه. كما ان الكنيسة لا تزال قائمة حتى اليوم أيضاً.
ولا شك في ان قناة السويس زادت كثيراً من أهمية هذا الموقع الجغرافي ومن الصراع عليه في الوقت ذاته. وكان المصريون القدماء يمارسون مبدأ الهجوم أساساً للدفاع عن وطنهم. فكانت لهم قوى عسكرية متطورة وقوية عرفت بشدة بأسها وحتى بفظاعة العمليات العسكرية التي كانت تقوم بها. من ذلك مثلاً المعركة التي خاضها الفرعون رمسيس الثاني في قادش، أو تلك التي خاضها الفرعون تحتموس الثالث في ماجيدو. فالهجوم العسكري، كما الانتصار العسكري، كان يوظف في تعزيز الانتماء للوطن وللفرعون.
عرفت مصر هذه الظاهرة في عام 1973 عندما عبرت قواتها قناة السويس وطاردت فلول القوات الاسرائيلية في سيناء الى أن جرى الالتفاف على القوات المصرية بفضل الجسر الجوي الأميركي لاسرائيل ومن ثم محاصرة القوات المصرية في الكيلو 101 على طريق القاهرة السويس.
كما عرفت مصر أنواعاً من التدخل الخارجي استغلالاً لموقعها الجغرافي قبل شق قناة السويس وبعدها. وآخر عملية تدخل خارجي كانت في عام 1956 عندما قامت بريطانيا وفرنسا واسرائيل باجتياح مصر بحجة تعطيل قرارات تأميم القناة. وحتى معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية التي أبرمها الرئيس أنور السادات في كمب دافيد في عام 1979 قضت بفرض قيود على انتشار الجيش المصري في سيناء وعلى طول الحدود مع اسرائيل. ولا تزال هذه القيود ملزمة حتى اليوم.
من هنا كان الجيش المصري على مدى التاريخ يلعب دوراً رئيساً في صناعة مستقبل الدولة، سواء لجهة التصدي للأطماع وللتدخلات الخارجية، أو لجهة تعزيز الانتماء الوطني على قاعدة الالتفاف حول الفرعون - الملك أو الرئيس!!
ولقد أدى الجيش المصري هذا الدور في عهد الرئيس حسني مبارك طوال العقود الثلاثة الماضية. وحاول الجيش أن يؤديه أيضاً خلال الانتفاضة الثورية التي أطاحت بالرئيس السابق، وهو يحاول الآن أن يلعبه من خلال رعاية مرحلة الانتقال الى الجمهورية الجديدة. وتتمثل هذه المرحلة في:
- تعديل الدستور
- اجراء انتخابات برلمانية جديدة
- اجراء انتخاب رئيس جديد للدولة.
وخلافاً للبعد التاريخي لدور الجيش المصري في الحياة العامة، فان مرحلة ما بعد الانتفاضة الثورية باتت تحتم عليه أن يواصل اداء هذا الدور ولكن بصورة تتماشى مع مقتضيات المتغيرات التي يفرضها النظام الديمقراطي الليبرالي الحر التي قامت الثورة أساساً من أجله. وادراكاً من الجيش المصري لحساسية هذه المقتضيات، فقد رفض الاستجابة تحت ذريعة الحاجة الى استقرار الأوضاع الداخلية بعد اقصاء الرئيس حسني مبارك - لطلبات تمديد فترة توليه السلطة المؤقتة ستة أشهر.
فقد تعهد الجيش بالإشراف على المرحلة الانتقالية على أن لا تتعدى ستة اشهر فقط. ولكن هناك قوى سياسية وحزبية حتى من داخل الحكومة الجديدة ذاتها تطالب بتمديد هذه المرحلة ستة أشهر اضافية لتسهيل اقرار كل الاصلاحات. غير ان الجيش أبدى خشية من أن يساء تفسير استجابته لهذه المطالب أياً تكن مبرراتها، بما يوحي بأنها تعكس رغبته في ممارسة السلطة، وهو ما لا يريده، ليس تعففاً فقط، ولكن استخلاصاً لدروس سقوط أو إسقاط- الرئيس السابق حسني مبارك.
ومن خلال ذلك يستطيع الجيش المصري الآن أن يمارس دوره التاريخي في تعزيز الانتماء الوطني بموجب المعادلات الجديدة. فبعد أن كانت الممارسة في السابق عبر الفرعون ولحسابه، أصبحت الآن عبر الشعب المصري ولحسابه.
كان الانتماء الوطني يتجسد من خلال الولاء للفرعون (وللرئيس)، اما اليوم فان الانتماء الوطني يتجسد من خلال ولاء الرئيس للشعب المصري. كان الفرعون في السابق يعزز سلطته ويخلّد اسمه من خلال الصروح التي يقوم ببنائها سواء كانت اهرامات أو تماثيل أو معابد. أما اليوم فان الانجازات الاجتماعية والثقافية والانمائية هي التي تخلّد الرئيس وتعزز احترامه والولاء له.
لقد تغيرت مصر بعد الانتفاضة الثورية، وهي تحتاج الى تكريس هذا التغيير والى تثبيت أركانه. وهذه عملية لا تقل صعوبة عن الانتفاضة الثورية ذاتها.