داود البصري

لعل من أبرز المتغيرات في عالم الإعلام العربي منذ مرحلة ما بعد حرب احتلال العراق إلى مرحلة إسقاط بقايا الأنظمة الشمولية في العالم العربي الجارية حاليا على قدم وساق منذ سقوط نظام بن علي الشمولي في تونس, وحتى حرب إسقاط نظام ملك الملوك الإفريقي الجماهيري المستمرة اليوم فصولا دموية متصاعدة , هو تغير الصورة النمطية لإدارة الصراع الإعلامي, ولمواقف بعض أهم القنوات الإعلامية العربية في نهاية القرن العشرين, وبداية القرن الحادي والعشرين وأعني بها quot;قناة الجزيرةquot; القطرية التي ملأت الدنيا و شغلت الناس وشكلت مواقفها المتغيرة والمتحولة علامات استفهام كبرى في مسيرة الإعلام العربي , فمن يتابع مسيرة quot;الجزيرةquot; اليوم بشأن غرفة عملياتها الإعلامية ضد الأنظمة الشمولية في تونس وليبيا وسورية سيستغرب كثيرا من مواقفها السابقة أيام الحرب الأميركية لإسقاط النظام العراقي العام 2003 , والتي وقفت خلالها مواقفا واضحة الى جانب نظام صدام إلى الدرجة التي بكى معها مراسلوها, كأحمد منصور وهو يغطي صور دخول القوات الأميركية لوسط العاصمة العراقية , كما أن الخطاب الإعلامي و السياسي العراقي كان يتخذ من quot;الجزيرةquot; موئلا ومركزا مباشرا له , حتى المحللون السياسيون و العسكريون المعتمدون لدى quot;الجزيرةquot; مثل العميد المصري صفوت الزيات كان وقتذاك يسخر من التحركات العسكرية الأميركية في احتلال العراق, بينما هو اليوم مثلا يتفنن أمام خارطته الثلاثية الأبعاد وهو يشرح عمليات الناتو وضرباته الجوية نحو الأهداف العسكرية والستراتيجية واللوجستية لنظام القذافي.
متغيرات انقلابية هائلة في غضون ثمانية أعوام شهدت quot;الجزيرةquot; خلالها نقلة تعبوية غير مسبوقة في الإعلام العربي.
لقد كانت quot;الجزيرةquot; التي توالت عمليات انشقاق بعض مذيعيها البارزين مثل التونسي غسان بن جدو, والسورية لونا الشبل, قد شهدت نقلة نوعية في برامجها بعد تحويل القناة بأسرها لمحطة عمل تعبوية ضد أنظمة تونس ومصر واليمن ثم كان الحشد الإعلامي الكبير في المسألة الليبية, وحيث رفعت علنا وبشكل غير مسبوق شعار إسقاط النظام الليبي وقدمت ضحاياها في هذا السبيل وهومصورهم في بنغازي, رغم أن معمر القذافي بالذات كان من أكثر القادة العرب الذين يظهرون على قناة quot;الجزيرةquot; وكان المذيع الشهير فيصل القاسم يعقد معه المقابلات المتلفزة المطولة وكانت أخبار العقيد وتحركاته وشطحاته وطرائفه ومقالبه حاضرة على الدوام, حتى تقرر تغيير السياسة الإعلامية نحونهايات تصادمية معلنة هدفها النهائي إسقاط النظام الليبي, بعد أن تدخل حلف الناتوعسكريا لحماية المدنيين الليبيين, ثم تطور الهدف نحو استئصال النظام وهومايجري حاليا وفق سيناريوهات بطيئة ولكنها ستحقق هدفها في النهاية.
ثم جاء دور النظام الذي سكتت عنه quot;الجزيرةquot; طويلا وهوالنظام السوري الذي كان لدور quot;الجزيرةquot; المحوري في تسليط الأضواء على جرائمه ردود فعل غير مسبوقة تمثلت في انشقاق أبرز عناصرها, وهم كما أسلفنا المذيع التونسي غسان بن جدو المرتبط أساسا بmacr; quot;حزب اللهquot; وبالنظام الإيراني, وهذا التحالف الثلاثي مع النظام السوري لايسمح له بالاستمرار في عمله مع quot;الجزيرةquot; التي اتهمها بعدم المهنية رغم أنه يعلم بكل التفاصيل والفرعيات المعروفة مسبقا في ملفات أخرى, ولكن غضبة الحليف السوري لاراد لها خصوصا وأن نظام دمشق يواجه طريقا مسدودا سينتهي به في النهاية لمصيره الحتمي والمعروف , أما المذيعة السورية لونا الشبل فإن انشقاقها تعبير فج عن مصالح شخصية لأن قناة quot;الجزيرةquot; لم تتغير, بل أنهم من تغيروا وخضعوا للضغوط الممارسة عليهم بكل تأكيد.
quot;الجزيرةquot; اليوم أصبحت رائدة وطليعية في عملية التغيير وهي تبعا لذلك قد قطعت خط اللاعودة في مواقفها الإعلامية الجديدة, والتي تعبر عن توجهات سياسية دولية وإقليمية لا تخطئ العين الخبيرة قراءة دلالاتها ومعانيها وأهدافها , quot;الجزيرةquot; كانت منذ انطلاقتها العام 1996 حالة مميزة ومختلفة في الإعلام العربي , وهي اليوم تحولت حالة هجومية ولسلاح دمار شامل ضد الأنظمة الشمولية, وخصوصا ضد الحلف غير المقدس بين ملالي طهران وquot;شبيحةquot; دمشق, بعد الانتهاء من ملف ملك الملوك الإفريقي, وملفات التغيير quot;الجزيريةquot; لن تتوقف أبدا بل ستستمر حتى نهاية الشوط ما يحصل اليوم هوترجمة حرفية لمشروع تغييري كوني كبير ادت فيه quot;الجزيرةquot; دور كاسحة الألغام, وهي مهمة شاقة ومكلفة, وستترك آثارها على الوضعين الإقليمي والدولي.
quot;الجزيرةquot; لم تعد مجرد علامة تجارية في سوق الإعلام الفضائي , بل أنها واحدة من أخطر الأسلحة الإعلامية, وقد حصد من أسسها نتائج غرسها, وهي اليوم تظل مالئة الدنيا وشاغلة الناس! في الشرق الأوسط تدور اليوم واحدة من أكثر مشاهد التاريخ البشري تحولا وغرابة.