يوسف نور عوض

لم يتبق سوى شهرين على إعلان استقلال جنوب السودان، وعلى الرغم من أن الكثيرين يشعرون بالحزن لفراق جزء عزيز من الوطن، فإن الرأي العام السوداني في معظمه بشعر بالرضا ما ظلت تلك رغبة الجنوبيين في تحديد مصير بلادهم، لكن يبقى سؤال مهم وهو هل إعلان استقلال جنوب السودان يعني نهاية المشكلات القائمة في هذا الجزء من السودان أو حتى نهاية المشكلات بين جنوب البلاد وشمالها؟
التخوف كان دائما يتركز في أن يؤدي استقلال جنوب السودان إلى صراع مسلح بين القبائل الطامحة في السيطرة على الجنوب، وتأكد ذلك الآن بعد أن رشحت أخبار تقول إن نزاعا مسلحا نشأ بين القبائل والتيارات السياسية المختلفة التي اشتبك بعضها مع جيش جنوب السودان، وقالت مصادر في الجيش إن عدد القتلى في الأسابيع الماضية تجاوز الألف قتيل، وربما كان الأمر في جوهره مسألة داخلية، وعلى الرغم من ذلك اتهم بعض القادة في جنوب السودان الحكومة السودانية بأنها هي التي تغذي الصراعات القبلية في الجنوب، وذلك اتهام لا أساس له من الصحة لأنه لا مصلحة لحكومة الشمال في أن تغذي صراعات قبلية أو طائفية بعد أن وافقت مختارة على احترام قرار الجنوبيين في الاستفتاء الأخير بالانفصال عن شمال السودان .
غير أن المشكلة التي بدأت تأخذ حيزا بالفعل هي مشكلة منطقة 'أبيي' التي تقع هي منطقة التماس بين شمال السودان وجنوبه، و كما هو معروف فإنها منطقة غنية بالنفط وأصبحت في الوقت الحاضر المصدر الأساسي لتمويل حكومة الشمال بالعملات الصعبة، ولكن في الوقت ذاته تضع حكومة الجنوب عينها على هذه المنطقة، وقد رأينا في الأيام الماضية الرئيس السوداني عمر حسن البشير يقول في خطاب ألقاه في منطقة جنوب كردفان إن منطقة أبيي شمالية وأكد أن الشمال لن يوافق بأي حال من الأحوال على ضمها إلى الجنوب وحذر الجنوبيين من أن يضمنوا دستورهم المؤقت أي فقرة تشير إلى أن أبيي منطقة جنوبية، وقال الرئيس إذا قرر الجنوبيون ضم أبيي إلى أراضيهم، وهي لم تكن كذلك عند إعلان استقلال السودان، فإن ذلك سيكون بمثابة إعلان حرب على الشمال، وقد استفزت هذه التصريحات بعض القادة في جنوب السودان وفي الحركة الشعبية على وجه الخصوص، حيث تساءل مالك عقار رئيس قطاع الشمال في الحركة الشعبية لماذا لم يعلن الرئيس السوداني استعداداته العسكرية عندما تعرضت بورتسودان أخيرا للاعتداء، وهدد عقار أنه إذا نشأت الحرب بين الشمال والجنوب حول أبيي فإنها لن تقتصر على المناطق التي يريدها الرئيس السوداني بل ستمتد إلى القصر الجمهوري في الخرطوم، وفي الوقت نفسه انتقدت حركة العدل والمساواة المتمردة في إقليم دارفور تصريحات الرئيس السوداني ووصفتها بأنها تؤجج الصراع في أقاليم السودان، وخاصة في جنوب كردفان وجنوب دارفور، وذلك أيضا هو موقف الإدارة الأمريكية التي انتقدت على لسان 'جون كارسون' مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية تصريحات الرئيس السوداني، وهو موقف لا يضيف جديدا على الرغم من أن الإدارة الأمريكية رفعت الحظر عن أحد المصارف السودانية المهمة وهو بنك الخرطوم، غير أن الكثير من السودانيين يرون ذلك إجراء لا يرقى إلى مستوى الوعود التي قدمتها الحكومة الأمريكية في سبيل إنهاء مشكلة جنوب السودان وغيرها من قضايا الخلاف بين الولايات المتحدة وبين الحكومة السودانية.
وفي الواقع فإن الموقف في السودان يتسم بغير قليل من التعقيد لأن القضايا - في الوقت الحاضر- لم تعد قضايا خلافات أو صراعات محلية بل أصبحت قضية استراتيجيات دولية لم تكن قائمة في الماضي، ولكنها أصبحت تلح بشكل كبير في الوقت الحاضر، وذلك ما يجعلنا نحاول فهم الواقع السوداني منذ بدايته.
وكما هو معلوم فإن السودان لم يكن عبر مراحله التاريخية المختلفة دولة موحدة أو قائمة بذاتها، إذ على الرغم من قيام الممالك والسلطنات في أٌقاليمه المختلفة فهو لم يشهد سلطة مركزية موحدة، ذلك أنه كان دائما مساحة كبيرة من الأرض يصعب توحيدها في إطار سلطة مركزية، غير أن الوضع تغير خلال الحكم التركي الذي استمر منذ عام ألف وثمانمئة وعشرين وحتى قيام الثورة المهدية في ثمانينيات القرن التاسع عشر وكذلك حلال الحكم المصري البريطاني الذي استمر منذ نهاية الثورة المهدية في نهاية ذلك القرن وحتى استقلال السودان في عام ألف وتسعمئة وستة وخمسين، إذ كانت هناك دائما دوافع في الإبقاء على السودان موحدا لأسباب تتعلق بتأمين مصادر المياه لمصر، ولم تعمل السلطات الخارجية على استحداث نظام يوحد البيئة السياسية ويقرب بين الموطنين السودانيين أو يؤلفهم في دولة موحدة، وربما كان السبب في ذلك هو أن مساحة السودان التي تبلغ مليون ميل مربع كانت أكبر بكثير من حاجة السكان الذين لم يتجاوزوا في أحسن الظروف العشرة ملايين، كما أن الثراء الذي تميزت به البلاد جعل الفقر غير موجود بشكله المعروف في بلاد أخرى، وذلك بسبب توافر المنتجات الزراعية والحيوانية التي تكفي حاجة الناس في جميع بيئاتهم، وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل الحكام لا يلتفتون كثيرا لمشاريع التنمية بمفهوماتها الحديثة التي تقيم الأ رضية اللازمة لتوحيد الناس في إطار دولة عصرية.
ويلاحظ أنه خلال فترة الحكم البريطاني للسودان اتبعت الحكومة البريطانية سياسة أطلق عليها سياسة المناطق المقفولة في جنوب السودان، وذلك من أجل منع الاحتكاك بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي الوثني والمسيحي، وقد نجحت هذه السياسة عبر فترة طويلة من الزمن، إلا أنه قبل الاستقلال بقليل اندلع القتال في جنوب السودان وهو الذي اعتبره الشماليون دائما حركة تمرد وهي الحركة التي قاوموها بالسلاح ما أدى إلى ضحايا قدروا بمئات الآلاف إن لم يكونوا بالملايين في تقديرات أخرى، ولم تنته هذه الحركة بشكل نهائي إلا بعد توقيع اتفاقية السلام في نيفاشا بضغط أمريكي في عام ألفين وخمسة، وهي الاتفاقية التي بدأت تنتكس مع ظهور بوادر خلافات حول منطقة أبيي ومسائل أخرى بين الشمال والجنوب.
ولا نغفل في الواقع حقيقة مهمة وهي أن مشكلة جنوب السودان لم تكن قضية محلية فقط، إذ وضح أخيرا أن التدخل الأجنبي كان أساسا من دولة إسرائيل التي غذت حركة التمرد ودربت رجالها، و لم يكن ذلك عملا قصد به السودان بل قصدت به مصر التي ترى إسرائيل أن إضعافها على المدى الطويل هو صمام أمان مستقبلها.
ونلاحظ على وجه العموم أنه على الرغم من المشاكل التي ظلت تظهر هنا وهناك في السودان، فالمؤكد أن شمال السودان لم يبذل أي جهد من أجل تغيير واقعه، بدليل أنه خلال أكثر من خمسة وخمسين عاما من الحكم الوطني بعد الاستقلال فإن العسكر حكموا أكثر من أربعين عاما بأيديولوجيات لم تكن مفيدة في تحقيق التنمية أو الوحدة الوطنية في البلاد كما أن الفترات التي لم يحكم فيها العسكر خضعت لأنظمة طائفية وحزبية مؤسسة على هذا الواقع، وبالتالي لم يجد السودان الفرصة في إقامة دولته حديثة.
ونلاحظ أن السودان في الوقت الحاضر يخضع لحكم الإنقاذ العسكري في مرحلة تعم فيها الثورات العالم العربي، لكن رجال الإنقاذ يقولون إنهم محصنون ضد مثل هذه الثورات وطالبوا المعارضة الحزبية بأن تشارك معهم في الحكم ولكن المعارضة رفضت أن تكون جزءا من النظام، وطالبت بأن تشكل حكومة قومية تمهد لانتخابات يتغير بعدها نظام الحكم القائم على مفهوم ديني، وهو عرض رفضه النظام، والذي يعرفه الكثيرون هو إن الإسلام مؤسس في السودان، وحتى خلال الحكم البريطاني كانت الحكومة تزاوج بين القوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية، ولم يحدث أي احتكاك بين الجانبين، والمعروف أن معظم الأحزاب السياسية في السودان قامت على هذا الأساس الديني ولم تجد تعارضا بين دعوتها إلى إقامة دولة مدنية ومعتقداتها الدينية، غير أن حكومة الإنقاذ لا تقبل هذا النوع من التفكير الذي قد يفتح المجال للمشاركة العريضة في الحكم بين فصائل الشعب المختلفة وهي مشاركة لا تحبذها في هذه المرحلة على الرغم من أنها قد تنهي مرحلة الصراع القائمة في الوقت الحاضر وتفتح المجال أمام مشاركة شعبية لا يكون فيها مجال للصراعات.