سليمان تقي الدين

لا تعالج إشكالية الهوية على أنها جوهر ثابت لا يحول ولا يزول، بل كمعطى تاريخي له ما لكل ظاهرة تاريخية تحولات في الزمن . ما نحن فيه اليوم ليس ما كنّاه من قبل ولن نكونه في المستقبل . صعدت وتهاوت إمبراطوريات عبر التاريخ، قامت كيانات واندثرت . كما تعرضت الأديان نفسها إلى جدلٍ بحيث لا نقعُ على دينٍ واحد لم يتحول إلى مذاهب وتيارات واتجاهات وفرق وبدع وهرطقات . ونكاد لا نجد تفسيراً جامعاً لأية فكرة دينية أم مدنية حيث للعقل البشري أسئلته التي لا تنقطع .

أما نحن أعني اللبنانيين المنشغلين بمسألة الهوية فوق ما نحتمل وفوق ما نطيق، بتنا أشبه بكائنات أيديولوجية لكثرة ما أطنبنا في الوصف، وكدنا نتوقف عن إنتاج الحياة لمصلحة هذا الإشكال الذي رفعناه إلى مرتبة القداسة وهو أدنى منها بكثير .

نحن مجتمع تكوّر حول نفسه من ثقافات وسلالات وبيئات تبدو منفصلة داخل هويات لم نتواضع حتى على تحديدها . فكم أطلقنا العنان للخيال التاريخي في استحضارها من جذر عرقي أو ديني أو لغوي أو جغرافي أو حضاري . فكانت كل هذه العناصر واقعية كعناصر في هوية مركّبة فَعل الاختلاط فيها فعلَهُ وأعاد إنتاجها في صور غير صور الماضي السحيق، حتى إننا تهنا في تحديد الأرجحية في ما بينها على ما صار في ما بعدُ عروبة أو وطنية جامعة، ولعلنا تواطأنا مراراً وتكراراً على التسوية أو المساومة حولها، فخفضنا من قيمة المتنازع فيه إلى مرتبة السياسة التي هي تدبير عاقل لشؤون المجتمع، لكننا لم نبلغ بعد عتبة الدولة الحديثة وهوية المواطنة .

كان أجدادنا لأربعة قرون عبرت أصحاب هويات دينية ومذهبية ينسكبون في وعاء سياسي جغرافي متحرك تتبع سلطة هي التي تديرهم وتقرر مصائرهم . فتاريخ تلك الحقبة إما تاريخ المؤسسات الدينية وإما تاريخ الإقطاع والممالك والمقاطعات والإمارات والمشايخ تستتبع فئات فلاحية أو حرفية . لكن هذا الإطار لم ينقطع عن منظومة إمبراطورية هي الدولة العثمانية، وقد تماوج في صراعات حكامها الإقليميين والمحليين .

ثم كانت الإمارة المعنية التي اتخذت هوية ابن معن والشوف بأسماء مختلفة ومنها جبل الدروز حتى صارت لأسباب عدة شاملة معظم المقاطعات، متقدمة عليها فاتحة مسار تفاعل وتعايش تحول إلى ما يشبه الأسطورة المؤسسة للبنان الحالي لولا عدة فجوات واقعية . ثم انشطرت تلك الإمارة إلى مكونين درزي وماروني في منتصف القرن التاسع عشر بعد ما كادت تكون إمارة نصرانية لولا خضوعها المتقلب للصراع المصري التركي، وانخراطها فيه وانهيارها أمام ظروف دولية وتحولات اجتماعية أفضت إلى حرب أهلية . لكن من بين معطيات تلك الحرب تصدر الكنيسة المارونية لدور القيادة مع نخب اجتماعية جديدة أوثقت علاقاتها بالغرب الرأسمالي الصاعد . طرأ جديد أوقف الهوية الطائفية بالهوية الكيانية السياسية لجبل المتصرفية، حتى صارت نوعاً ما الواقع الذي فرض نفسه على الثورة العربية التي اعترفت له بالاستقلال الذاتي أو بالحكم اللامركزي، وشكل نواة الكيان الأوسع الذي ولد عام 1920 بتسوية مزيج من وقائع المنطقة ومعطياتها وطموحات سكانها مع المصالح الغربية التي رسمت معادلة سايكس بيكو . ارتج العقل اللبناني كله في تأويل هذا الوليد فكان أقرب إلى هوى الموارنة منه إلى هوى الجماعات الإسلامية المتعددة . لكنه طرح على المارونية السياسية القائدة للمجتمع والدولة آنذاك تحديات بلورة هوية وطنية جامعة، فاشتغل المثقفون الأكليريكيون والمدنيون على أسطورة جديدة انطوت على مكونات عدة مركبة غير متناسقة . فهذا اللبنان في حدوده الجغرافية التاريخية أو الطبيعية وهو وارث فينيقيا الساحلية، وهو تلاقي البحر والجبل والشرق والغرب والمسيحية والإسلام، وهو الإرادة المشتركة وذو وجه عربي ولا يتسع المجال لتنفيذ هذه وغيرها من الإسقاطات التاريخية على واقع موجود فعلاً، لكنه موجود مصادفة مثله مثل سواه من الكيانات والهويات، ولم ينفع ذلك في تأكيد وجوده أو أفكاره من طرفي المعادلة ذات الطابع الغالب المسيحي والإسلامي .

هذه الوطنية اللبنانية إذاً، واقع متحرك وكائن تاريخي متطور أفرز في الربع الأخير من القرن الماضي، وأظهر هويات أو عناصر لهويات أخرى هي الهوية الاجتماعية والثقافية المدنية التي كانت طبقات اجتماعية حديثة أو تيارات فكرية وثقافية وسياسية، وأحزاباً وخيارات تشلعت معها الأسطورة الواحدة الضعيفة أمام طغيان المصالح والنزاعات، فارتدت أكثر إلى ملاذٍ هو البيئات الطائفية . لكن الطائفية ليست هوية كما يظن البعض، إلا لأنها الوجه القبلي من الدين والوجه المدني المتأخر جداً من السياسة باعتبارها أحزاباً سياسية تمارس لعبة السلطة وتتنازعها .

استنفدت الطائفية في ربع القرن الماضي دورها كهوية قادرة على تكوين نظام مشترك مستقر بين الجماعات، فانتقلت هذه الجماعات إلى التسوية التاريخية الأكبر، تسوية الطائف، التي زاوجت الوطنية اللبنانية والعروبة في صيغة أقرب ما تكون إلى توازن سياسي فرض نفسه فأقر اللبنانيون بما هم جماعات سياسية طائفية منتفخة مشبعة بالكيانات المفككة، العودة إلى الدولة المركزية كخيار اضطراري، فتنازلوا عن جزء من سلطاتهم لها ليتمكنوا من اقتسام السلطة المركزية لا ليجعلوا منها دولة مركزية حديثة تشكل هويتهم الجامعة . فحين ننتقل من الهوية الفردية إلى الهوية الوطنية أو القومية لدينا نماذج إنسانية منها أن الدولة القومية تبني المواطن، أو المواطنة التعاقدية التي تبني الدولة، وفي كلتا الحالتين نحتاج إلى المواطن الشريك في عقد اجتماعي ينتسب إلى الدولة بوصفها الشخصية المعنوية التجريدية التي تجسد مصالح كل المنتمين إليها .

وما كان في الدستور المعدل بعد الطائف خارطة طريق مبتكرة لتجسيد الهوية الوطنية في دولة لكل مواطنيها، تحول تحت وطأة أمراء الطوائف إلى أولغارشيا سلطوية هدمت حدود الدولة بأركانها واستكملت تطويق المجتمع المدني وتفكيكه واستتباعه لمصلحة سلطة الجماعات مجدداً .

تركت السلطة مشروع الدولة خارجاً وتقاسمت ملفاتها، وعلى مدى عقدين بعد الحرب ألهبت السلطة الخيال الطوائفي، حيث صار لكل طائفة مهمة خاصة من مهمات الدولة الأساسية في الأمن والدفاع الوطني والاقتصاد . وما كان تحت سلطة أعلى من الخارج توازناً، صار فوضى كيانية مجدداً، حتى عادت تراود معظم هذه الجماعات فكرة الفيدرالية الواقعية أو النظرية وشبكت الجماعات مصائرها بنزاعات دولية وإقليمية لم تستقر بعد .

طرأ على هذا المشهد عنصر خطر هو التيارات الدينية والمذهبية العقيدية صاحبة المشروعات السياسية الممتدة على مساحة الشرق الأوسط . هذا البعد الديني المذهبي يخترق كل المجال السياسي ويتقدم رتبة على ما عداه من عناصر الهوية فيحاول الهيمنة، لكنه عاجز عنها بالمعنى الأيديولوجي . فهو أقوى نفرة من الطائفية، وهو يعمّقها كقنوات لتوزيع الدخل الأهلي والمصالح والامتيازات، ويضفي عليها شرعية من القداسة لم تكن لها من قبل .

واقعاً، يغذي هذه الهويات غياب الدولة ويمنع قيامتها ويجعل من الصراع الإقليمي الأوسع بيئة خصبة . ولا أستطيع في هذه العجالة تفصيل المخاطر كلها ولا اقتراح الحلول الممكنة للخروج من هذا المأزق . لكنني أرى أننا في دائرة فوضى لا يمكن توقّع نتائجها المأساوية، خاصة أنها مزيج من عوامل وتفاعلات كبرى تصعب السيطرة عليها . أما الحلول فهي في تكوين إرادة إنسانية للمساواة والحرية خارج كل الخطاب الأيديولوجي والسياسي . فلا يمكن الرهان على حوار الهويات كما هو الحال كذلك مع حوار الأديان الذي يصبح ترفاً فكرياً أو قيمة مضافة لمجتمعات مستقرة فيها كل الضمانات للحرية . إن الموضوع الوحيد الذي يستحق أن نتطلع إليه بقوة كوسيلة نجاة هو تركيز مشروع الدولة على أولوية حقوق المواطن مع كل ما يلزم من قواعد آمرة كمقدمة لبناء الهوية المشتركة . إن مجتمعاً يقوم على كذبة العيش المشترك أي على تجاور الهويات دون دولة قوية ضامنة هو مشروع حرب أهلية دائمة .