قدري حفني

إن تغيير جهاز التكييف واستبداله بآخر أكثر تطورا وكفاءةrlm;,rlm; أمر قد يحدث علي فترات متقاربة نسبيا ولأسباب شتيrlm;,rlm; ولكنه يختلف تماما عن تغيير نظام التحكم في حرارة الجو بالانتقال من نظام المراوح اليدويةrlm;,rlm; إلي المراوح الكهربائيةrlm;,rlm; إلي أجهزة التكييف

التي نعرفها اليوم بطرزها المختلفة, فمثل ذلك التغيير في النظام لا يحدث إلا علي فترات طويلة; ويعني ذلك أن تغيير الأجهزة داخل إطار النظام يختلف تماما عن تغيير النظام المحدد لتصميم تلك الأجهزة ولآلية عملها. ولعلنا لا نجاوز الحقيقة حين نقرر أن الأمر لا يختلف كثيرا في مجال التطور السياسي عنه في مجال التطور التقني; فالثورة وسقوط الأنظمة القديمة لا يحدث إلا عبر حقب تاريخية تشهد الشعوب خلالها صورا متفاوتة من التغيير السياسي لا يمس جوهر النظام الذي لا يتغير إلا بالثورة.
لقد استهدفت ثورة52 يناير إسقاط نظام دكتاتوري, وإقامة نظام ديمقراطي يستطيع الشعب من خلاله أن يختار الأسلوب الأمثل لتحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية. وإذا كان نجاح الثورة يقتضي بالضرورة تنحية من يطلق عليهم قادة النظام السابق ورموزه, وكذلك حل أو دمج أو تعديل بعض مؤسسات النظام السابق; فإنه يظل ضروريا المحافظة علي غالبية المؤسسات القائمة قبل الثورة كالمدارس والمكتبات ودور النشر والمستشفيات ودواوين الحكومة; كما أن تثبيت أقدام الثورة يقتضي التمييز بين رموز النظام القديم الذين يتحتم استبعادهم, وبين بقية العاملين والموظفين اللازمين لاستمرار دوران دولاب العمل, وهو تمييز ينبغي أن يلتزم الحذر بحيث لا يظل بعض قادة النظام القديم ممسكين بالسلطة, وكذلك بحيث لا تتسع دائرة الاستبعاد لدرجة تهدد بتوقف دولاب العمل.
ولكن حتي بعد أن تنجح الثورة في كل ما سبق, ويتم القضاء تماما علي رموز النظام القديم, فإن ذلك النجاح لا يكتمل, إلا بتبني آليات عمل جديدة, وإلا نصبح أشبه بمن استبدل جهاز التكييف القديم بجهاز جديد قد يكون أكثر كفاءة وأبهج ألوانا ولكنه يعمل وفقا للآلية نفسها.
إن النظام السياسي ـ كما يدل التعبير لغويا ـ لا يقتصر علي أشخاص ممثلي النظام ولا حتي علي مؤسسات ذلك النظام, بل يعني في المقام الأول آلية العمل وأساليب الإدارة وإصدار القرارات, ولقد تميز نظامنا السياسي السابق علي ثورة25 يناير من حيث آلية العمل وتحديدا أسلوب اتخاذ القرار بعدة سمات متداخلة تكاد تكون لصيقة بجميع النظم الدكتاتورية:
ـ إحاطة أي قرار قبل إعلانه بسياج من التكتم تجعله أقرب إلي قرارات الحرب التي تقتضي المفاجأة لإرباك العدو.
ـ الترفع عن أن تقدم السلطة للشعب مبررات كافية لما تتخذه من قرارات, فضلا عن مناقشة تلك القرارات مسبقا مع من يعنيهم الأمر من الجماهير.
ـ ارتباط هيبة النظام بقدرته علي التمسك بقراراته بصرف النظر عن رفض الجماهير لها, واعتبار التراجع عن تلك القرارات انهيارا لهيبة النظام.
ـ الاعتماد علي قوي الأمن باعتبارها الضامن لهيبة الدولة ولتنفيذ قراراتها.
وفي مقابل تلك السمات; فإن النظم الديمقراطية تتسم ـ إلي جانب اختيار الشعب حكامه إلزاما لأولئك الحكام علي مختلف مستوياتهم ـ بتحسس رأي الجماهير فيما يخصهم من قرارات قبل إصدارها, وتقديم مبررات اتخاذ تلك القرارات, خاصة فيما يتعلق باختيار القيادات المحلية والتنفيذية, والاستعداد دائما للتراجع عن أي قرار ترفضه غالبية الجماهير باعتبار ذلك التراجع تأكيدا لشرعية النظام التي تسبق وتبرر الحفاظ علي هيبته, وباعتبار أن الجماهير هي الضمان الحقيقي لتلك الهيبة, وأن دور قوي الأمن يقتصر علي حماية حدود الوطن خارجيا, ومقاومة الإجرام والتخريب والتجسس داخليا.
وليس من شك في أننا نشهد خلال الفترة الانتقالية التي تعيشها ثورتنا بقيادة المجلس الأعلي للقوات المسلحة العديد من البشائر التي تؤكد الاتجاه نحو نظام ديمقراطي جديد نأمل في أن تكتمل ملامحه مع الانتخابات المقبلة: من تجنب اللجوء للمحاكمات العسكرية, إلي تجنب الدفع بالشرطة لمواجهة احتجاجات جماهيرية سياسية حتي لو تجاوزت الحدود المألوفة, إلي عودة العقلانية إلي التناول المصري للملف الإفريقي والملف الفلسطيني الإسرائيلي.
ولكنا نشهد أيضا مقاومة لتلك البشائر تهدد بالانزلاق إلي غواية استنساخ آليات النظام القديم: ثمة أصوات تنعي علي النظام الانتقالي الراهن تباطؤه في اتخاذ ما يضمن هيبة الدولة, سواء في مواجهة ما يطلق عليه تجاوزات تيارات الإسلام السياسي أو تجاوزات الاحتجاجات الجماهيرية, وتتنادي تلك الأصوات بأن التراجع عن قرارات ترفضها قطاعات من الجماهير ينذر بالخضوع للغوغائية والفوضي وضياع هيبة الدولة, وأنه ينبغي بدلا من الاستماع لحجج تلك الجماهير ومحاورتها سياسيا ـ التمسك بتلك القرارات والدفع بقوي الأمن لمواجهة الجماهير المحتجة.
خلاصة القول إن تفعيل شعار الشعب يريد إسقاط النظام, لا يعني فحسب اجتثاث رموز النظام الدكتاتوري القديم! بل الأهم هو ترسيخ آلية جديدة لنظام ديمقراطي جديد.