عصام نعمان

ثمة حال عامة من الضياع والشرذمة والتسيّب تخيم على جميع الأقطار التي عصفت بها انتفاضات شعبية منذ نحو خمسة أشهر وما زالت . من مزايا هذه الحال العامة استقواء الجمهور على السلطة . فالجمهور كسر حاجز الخوف من السلطة التي كانت دائماً قادرة على تدجين الناس وإرعابهم وسوقهم إلى حيث تريد . السلطة، بعد اندلاع الانتفاضات الشعبية، فقدت هيبتها فضلاً عن حصانتها واحترامها .

نجم عن هذه الحال غير العادية أن طرفي الصراع باتا غير قادرين على السيطرة . لا أهل السلطة في وسعهم فرض إرادتهم وسياستهم على الناس، ولا الناس في مقدورهم أن يفرضوا إرادتهم كاملةً على أهل السلطة . هذا الواقع غير المألوف هو ما يشكّل الحال العامة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والأردن ولبنان، ناهيك بفلسطين المحتلة التي يتصارع شعبها مع الاحتلال الصهيوني من جهة وتصطرع قواها الوطنية في ما بينها من جهة أخرى .

تزداد الحال العامة المضطربة تعقيداً بلجوء قوى محلية وإقليمية ودولية إلى استخدام العصبيات الطائفية والقبلية والعرقية أداةً في الصراع . في ليبيا، مثلاً، استدخل أحد طرفي النزاع الحلف الأطلسي في الصراع السياسي، والطرف الآخر استخدم العصبية القبلية . في مصر، لجأ أهل النظام المخلوع بالتواطؤ مع أطراف خارجية إلى استخدام العصبية الدينية كأداة لتفجير فتنة بين أبناء الشعب الواحد . في اليمن، لجأ فريق أهل النظام إلى العصبية القبلية والعصبية الجهوية للنيل من الفريق الآخر المعارض له . في سوريا، يتردد أن فريقاً ثالثاً قيل إنه سلفي متطرف لجأ إلى العنف لتأجيج الصراع بين أهل النظام وأهل المعارضة الإصلاحية والإيقاع بينهما . في لبنان، لجأ الطرف المناهض للمقاومة إلى الطائفية والمذهبية لدمغها بالفئوية بغية تبرير الحملة الرامية إلى تجريدها من السلاح أو إخضاعها، في الأقل، للجيش بدعوى أنه جيش الدولة، وأي دولة!

ما المخرج من هذه الحال الجهنمية؟

يحاول أهل السلطة الممسكون بزمام القوات المسلحة استخدام القوة للجم الأطراف المتمردة وإخضاعها لسلطان الدولة . إنه الحل الأمني الذي يخدم بعض الوقت وليس كله، فضلاً عن أن اعتماده يتوقف على مدى الهيبة التي تتمتع بها القوات المسلحة والقدرة على فرض إرادتها وتوطيد الأمن والنظام . إن الحل الأمني يحمل في طياته خطر انقسام القوات المسلحة على نفسها . في هذه الحال، يُخشى أن تصبح الحرب الأهلية النتيجة ldquo;المنطقيةrdquo; للانقسام . غير أن عدم اللجوء إلى القوات المسلحة لفرض الأمن والنظام قد يفاقم حال الاضطراب والتسيّب ويمدد أمد الصراعات الأهلية، ويعطي القوى الخارجية فرصاً للتدخل .

لعل المخرج الأفضل من هذه الحال غير المألوفة هو في توافق القوى الحية في المجتمع السياسي والمجتمع المدني مع القيادة الوطنية للقوات المسلحة على نهج للخروج من الأزمة يقوم على ثلاثة أسس:

* أولها، فرض الأمن والنظام بالسرعة الممكنة بأقل قدر من العنف والخسائر البشرية والمادية .

* ثانيها، إيجاد مناخ من الحرية والحوار، وبناء مؤسسات سياسية ووضع قوانين وأنظمة لإقامة حكم القانون والديمقراطية بالسرعة الممكنة .

* ثالثها، إجراء انتخابات تشريعية حرة ونزيهة تنبثق منها حكومة وطنية تؤيدها أكثرية متماسكة حول برنامج سياسي واقتصادي أو أكثرية ائتلافية ذات برنامج توافقي مرحلي .

إن التفاهم حول أسس المخرج التوافقي من الأزمة يتوقف على مدى وعي وإدراك والتزام القوى الحية في المجتمع السياسي والمجتمع المدني، كما يتوقف على مدى وعي قادة القوات المسلحة والتزامهم وحدة البلاد ومصالحها العليا واستعدادهم لدعم التوجهات التوافقية بمنأى عن أي تورط أو توريط للقوات المسلحة في الصراعات السياسية أو التعامل مع القوى الخارجية الطامعة .

إن جوهر المخرج التوافقي هو جعل الشعب حَكَماً للفصل في القضايا العالقة بين مختلف المكوّنات المجتمعية والسياسية للبلاد، وبالتالي تمكين الهيئة الناخبة في انتخابات تشريعية حرة ونزيهة من إعادة تشكيل السلطات العامة بصورة ديمقراطية سلمية .

صحيح إن الاحتكام إلى الشعب ليس حلاً سحرياً مأموناً لأن الشعب (أي الناخبين) لا يتمتع دائماً بأعلى درجات الوعي والإدراك واليقظة لتأتي خياراته وقراراته صحيحة وفاعلة، لكن القبول بمرجعيته يبقى أكثر مشروعية وأقل تكلفة من اللجوء إلى نهج أو آلية غير ديمقراطية .

ولعل الدرس الأبرز المستخلص من التجارب السياسية المعاصرة أن الديمقراطية، رغم ثغراتها، تبقى النظام الأفضل والأفعل للمجتمعات التعددية . لذا هي الأفضل لمجتمعاتنا العربية كونها مجتمعات تعددية بامتياز .

هذا المعيار ينطبق على لبنان بالدرجة الأولى . ذلك أن الرئيس نجيب ميقاتي (والقوى السياسية التي تدعم) عجز بعد أكثر من مئة يوم على تكليفه تشكيل الحكومة أن ينجز مهمته . سبب العجز التعددية السياسية المرهقة من جهة التي أنتجت تكتلين سياسيين متكافئين غير قادر كل منهما منفرداً على حكم البلاد وقيادة العباد، والتدخلات الخارجية، خاصةً الأمريكية، من جهة أخرى .

لعل المخرج يكمن في اقتراح رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني: تأليف حكومة من 14 وزيراً تكنوقراطياً، تكون مهمتها القيام، خلال ثلاثة أشهر، أكثر أو أقل، بوضع قانون ديمقراطي للانتخابات على أساس التمثيل النسبي، وقانون لتنظيم القضاء كسلطة مستقلة، على أن يصار بعد ذلك إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة يقول فيها الشعب كلمته وتتألف على أساسها حكومة جديدة بالاستناد إلى أكثرية متماسكة أو إلى أكثرية ائتلافية .

أيها اللاعبون المحترفون في الملعب السياسي الضاجّ بألاعيبكم . . . عودوا إلى الشعب ليقول كلمته الفصل في أشخاصكم وفي مسألة إعادة تشكيل السلطات . هل من حل آخر أقل كلفة سياسية ومعنوية ومادية؟