الإقتصادية - الرياض

القيادات التاريخية الوطنية المسؤولة هي تلك التي لا تضع خيارا بينها وبين الوطن، بمعنى أنها لا تختصر الوطن في ذاتها، وبالتالي لا تلقي بالوطن إلى التهلكة من أجل ذاتية تنفي في النهاية كل الكرامة عنها حين يكون الخيار أنا أو الطوفان.

هذا هو بالضبط موقف الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، فهو عوضاً عن أن يثبت وطنيته وزعامته انطلاقا من أن حب اليمن أولا وأخيرا، برهن على مدى ثلاثة أشهر عن ذهنية رعناء استعصمت فقط بالرهان على حسابات المقامرة بدلا عن حسابات المغامرة، والفارق بين الحالتين كبير، فالمقامر يقوده هوسه للانجراف في الاستخفاف بكل ما أمامه ومن أمامه ورهن كل ما لديه لنزوة كسب لا وجود لها إلا في هوس ظنونه وإلا فإنها على أرض الواقع خسارة ماحقة، أما المغامرة فرغم مخاطرها إلا أنها لا تنطلق من هوس الظنون وإنما من جسارة منبثقة عن معرفة بالواقع وبالإمكانات المتاحة إنما تشترط حسابات حرجة وإرادة.

لم يبرهن الرئيس علي عبد الله صالح سوى أنه مرتهن نفسه للمقامرة، فحسب، وهو ارتهان، طالما هو في موقعه هذا يشكل مصدر كارثة مرعبة، ليس على شخصه فتلك مسألة تخصه، لكن على شعبه، بل المنطقة أيضا.

لقد أتيح لعلي صالح من قبل دول مجلس التعاون الخليجي ما لم يتح لسواه من سند معنوي مثلته مبادرة المجلس للخروج المشرف من مأزقه، مع أن شعب اليمن الشقيق خرج عن بكرة أبيه في كل المحافظات من شماله إلى جنوبه يهتف بسقوطه ويطالب برحيله، غير أنه بدلا من أن يقابل هذا الجميل من قبل أهل الخليج ويقدر لزعمائه محاولاتهم الوصول إلى صيغة مشرفة في مبادرتهم يرضى عنها وترضي الآخرين إلا أنه مارس الهروب إلى الأمام وكأنه لاعب روليت روسي أحمق أطارت صوابه اللعبة المجنونة.

إن طول نفس زعماء مجلس التعاون والرحلة المكوكية التي قام بها أمين عام المجلس للاجتماع به وبزعماء المعارضة وبالثوار والعمل على إيجاد صيغة مقبولة لهذه المبادرة عبر التعديل والاتفاق والتوافق بما يحفظ له ماء الوجه ويتيح له مخرجا مشرفا وانتقالا آمنا للسلطة.. إن كل ذلك مع الأسف أخذه الرئيس اليمني على أنه محاباة له أو استمالة من زعماء المجلس وبأنه بات في نظرهم المنقذ والملاذ.. فغمره جنون العظمة أو شطط الرعونة فأمعن في صلف العناد وفي إدارة الظهر لمن شاؤوا حماية ظهره.. وهو سلوك شعر معه أهل الخليج زعماء وشعوبا بقدر من الإهانة لا ينبغي معه المضي أكثر، ما جعل قادة المجلس لا يعلقون مبادرتهم فقط وإنما ينفضون أيديهم من سوأة حماية من لا يستحق الحماية ويبرأون من هذا الغلو في ركوب المقامرة والمجازفة بمصير بلد أثبت نزوع شعبه العميق للسلم والسلام على مدى ثلاثة أشهر لم يطلق فيه أحد منهم حصاة نبلة واحدة مع أن أكثر من 60 مليون قطعة سلاح موجودة هناك.

إن الرئيس اليمني ليس فقط مقامراً وضع رأسه على طاولة القمار فحسب وإنما أوهمه هوسه بالقمار أن بالإمكان أيضا وضع كرامة أهل الخليج معه على الطاولة، وهذا ما بات عليه الآن أن يدركه، إن كان ثمة وقت للإدراك عنده، بأن أهل الخليج زعماء وقادة إنما بادروا بالأساس حماية وصونا لكرامة شعب اليمن الشقيق ودرءا لنذر الكارثة عنه وعن المنطقة كلها.. أما علي صالح فقد اختار مصير المقامر.. ولا يصح إلا الصحيح في أن حسابات المقامرة تهلكة على صاحبها، أما شعب اليمن الشقيق فكفيل بالانتصار لنفسه وبالعودة بوطنه إلى أشقائه في الأسرة الخليجية ومع أمته العربية.