أكرم عبدالرزاق المشهداني
في مقالتنا السابقة في laquo;العربraquo; تحدّثنا عن المحكمة الجنائية الدولية كإرادة ورغبة دولية عامة، في القصاص من الظالمين الذين يرتكبون الجرائم الفظيعة بحق الإنسانية. ولقد لخّصَ خطاب سمو أمير دولة قطر في مؤتمر الدوحة الإقليمي عن المحكمة الجنائية الدولية مؤخرا الموقف من المحكمة بالنقاط التالية:
- إنّ مؤتمر الدوحة يشكّل فرصة طيبة للحوار بشأن المحكمة، ودورها في تحقيق العدالة الدولية، وإنّ المجتمع الدولي قطع شوطاً كبيراً في مجال إقرار العدالة الجزائية الدولية، وكانت المحكمة هي أحد أهم إنجازاته.
- إن العرب حريصون على ضرورة قمع جرائم العدوان والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وعلى تقديم مرتكبيها للعدالة، وعدم إفلاتهم من العقاب، فالعرب هم أكثر المتضررين من هذه الجرائم.
- إن السوابق الخاصة بمحاكمة المجرمين في كل من يوغسلافيا السابقة ورواندا وكمبوديا وسيراليون أضافت إلى القضاء الدولي إرثاً قانونياً لا يستهان به.
- إن كثيراً من دول العالم أحجمت عن الانضمام لنظام المحكمة لأنها وجدته لا يتسع للعديد من الجرائم الجسيمة التي وقفت المحكمة أمامها عاجزة عن تحقيق العدالة كتلك الجرائم التي ارتكبت وما زالت ترتكب في حق الفلسطينيين المدنيين تحت الاحتلال في قطاع غزة.
- إن السلطة التي منحها (نظام روما) لمجلس الأمن الدولي في تفعيل أو إيقاف عمل المحكمة يتنافى مع الاستقلال الواجب للمحكمة في أداء عملها كما ينبغي.
لقد شارك العرب بجدية وحماس، ضمن ممثلين عن 160 دولة، في مناقشات روما لإقرار النظام الأساس للمحكمة على مدى عامي 1996 و1998، يحدوهم الأمل في قيام جهاز قضائي دولي دائم ومستقل، يكون أداة ضرورية لترسيخ مبادئ العدالة الجنائية الدولية وتطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني بين جميع الشعوب والدول دون تمييز ولا تفرقة، فضلا عن الرغبة الأكيدة في عدم إفلات أي مجرم من العقاب، إلى أن تم اعتماد وثيقة روما عام 1998 ودخلت حيز النفاذ في 2 يوليو 2002 وبلغ عدد الدول المصادقة أو المنضمة لنظام روما حتى الآن 115 دولة من بينها 3 دول عربية فقط هي الأردن وجيبوتي وجزر القمر.
ولا شك أن للعرب أسباباً دعتهم للوقوف هذا الموقف السلبي من المحكمة ومن أهم هذه الأسباب أن العرب صُدِمُوا بعدد من (الثغرات) في نظام روما جعلتهم يمتنعون عن التصديق ومنها: عدم إدراج جريمة العدوان (وهي أم الجرائم) كجريمة مُعَرَّفة وتأجيلها إلى مؤتمر المراجعة الاستعراضي 2010 (رغم مرجعية التعريف بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 بتاريخ 14 ديسمبر 1974). كما أن منح نظام روما لمجلس الأمن الدولي صلاحيات بالإحالة من شأنها التقليل من استقلالية المحكمة، لأنّ مجلس الأمن هو هيئة سياسية وليست قضائية. كما أن وجود مادة في نظام روما (م 109) تقضي بعدم جواز أي تحفظ على مواد النظام أدى إلى إعاقة تصديق كثير من الدول على النظام. كما أن الخشية من استخدام النصوص الخاصة بالنزاعات الداخلية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول كانت أحد هواجس الممتنعين، فضلا عن أن عدم إدراج نصوص خاصة تحرم استخدام كافة أسلحة الدمار الشامل أو التهديد باستخدامها وعلى رأسها السلاح النووي كان من مثالب نظام روما. أما مسألة التذرع بخرق النظام لمبدأ الحصانة للرؤساء فقد يكون مبررا للبعض وليس الجميع، حيث إن كثيراً من الدول بدأت في إعادة النظر في دساتيرها التي تمنح الحصانة للرؤساء ومنها فرنسا.
لقد كان الموقف الأميركي والإسرائيلي غريباً من نظام المحكمة، ففي الوقت الذي شاركت أميركا في مفاوضات الإنشاء، بل ووقعت على النظام إلا أنها سحبت التوقيع بعد أيام، في عهد الرئيس كلينتون، حيث إن الترتيبات التي تستهدف منح حصانات لأشخاص معينين من الخضوع لولاية المحكمة (بموجب المادة 98) جعلت الولايات المتحدة توقع اتفاقات مع الدول المنضمّة بما يمنح قواتها حصانة من المساءلة أمام المحكمة، كما نجحت في استصدار قرار من مجلس الأمن برقم 1478 لسنة 2003 بمنع المحكمة الجنائية الدولية من مقاضاة مسؤولين تابعين لدولة ليست طرفا في نظام روما الأساسي، وبذلك أفرغت النظام من محتواه. علما بأن نص المادة 98 يقيّد قدرة المحكمة على طلب تسليم مشتبه به من دولة ما في حال كان ذلك يناقض اتفاقا دوليا آخر. كما أن (دولة الاحتلال) أميركا أجبرت العراق عام 2004 على سحب تصديقه على نظام المحكمة في عهد رئيس الوزراء إياد علاوي لكي لا يتعرض جنودها للمساءلة والمقاضاة!!
لماذا يجب على العرب أن يُعيدوا النظر في موقفهم من الانضمام للمحكمة؟ السؤال الذي يثور دائما: هل إن وجود العرب خارج نظام روما هو (أفضل) لهم من وجودهم داخله أم العكس؟ الجواب هو أن وجود العرب داخل نظام روما يعطيهم الفرصة ليشاركوا ضمن جمعية الدول الأطراف في أي مسعى لتعديل مواد النظام أو الوقوف بوجه أي محاولة للتعديل بما يضر بالمصالح العربية أو يخرق القيم العامة، فلو كان العرب موجودين بقوة في المؤتمر الاستعراضي للدول الأطراف في كمبالا لكان لهم دور في صياغة تعريف laquo;العدوانraquo;، وكذلك ربما الحد أو التهذيب من سلطات مجلس الأمن وتفرده في ممارسة سلطاته على المحكمة.. فلقد انتهى مؤتمر كمبالا (يونيو 2010) بتوافق عسير بشأن تعريف جريمة العدوان تضمن شروطا لممارسة المحكمة اختصاصها على هذه الجريمة اعتبرت مخيبة للآمال. إن الواقع الحالي يفرض على العرب التواجد في جمعية الدول الأطراف من أجل تمثيل الدول العربية عند إقامة أجهزة المحكمة واختيار القضاة وجهاز المدعى العام الذي يراعى فيها التوزيع الجغرافي وتمثيل الأنظمة القانونية الأساسية في العالم ومنها الشريعة الإسلامية، وكذلك متابعة الجهد العربي من داخل جمعية الدول الأطراف من أجل التوصل إلى تعريف مقبول لجريمة العدوان وشروط ممارسة المحكمة اختصاصها على هذه الجريمة.
علينا ألا نضع رؤوسنا في الرمال كالنعامة خوفا من المواجهة، فالمحكمة الجنائية الدولية صارت اليوم حقيقة واقعة، وأحد أهم الأجهزة الأممية شئنا أم أبينا، وإن استمرار عدم الانضمام إليها غير مقبول. ثم إن الهواجس من انتقائية التطبيقات السابقة للمحكمة، لا ينبغي أن تحول دون انضمامنا للمحكمة، لأن شعوب العالم في النهاية أكثر المتضررين من غياب العدالة. وأن من حق الدول العربية أن تعمل ضد انتقائية المحكمة، ولكن ذلك يتم بعد الانضمام لعضويتها، ولا ينبغي النظر إلى المحكمة عبر أميركا وإسرائيل. كما يجب أن نسعى لتوفير قضاء وطني في كل دولة عربية يتسم بالنزاهة والقوة والصدق، وهو ما سيغني عن الخضوع للمحكمة الجنائية الدولية في كثير من الأحيان لأنه بمجرد تحويل من يثبت تورطهم في جرائم إلى القضاء المحلي مهما كان سُلَّمُهم الوظيفي في الدولة فإن القضية تنتهي عند ذلك الحد لأن الأولوية للقضاء الوطني، ولا بد من توفير التشريعات التي تتوافق مع نهج المحكمة في تجريم الجرائم الخاضعة لاختصاصاتها.
laquo;إن الغائب لا صوت لهraquo;، وإن استمرار رفض التوقيع على معاهدة روما لم يعد مقبولا بل يجب أن تتوافق الدول العربية على مبادئ معينة سواء في موضوع التوقيع أو غيره من الموضوعات، ولم تعد هناك حصانة لأحد أمام القانون والقضاء الدوليين خاصة فيما يتعلق بجرائم بعينها مثل جرائم الحرب، فالقانون الدولي والاتفاقيات الدولية هي أسمى من الدساتير الوطنية ومن القوانين المحلية. وإن توفير بعض الدول الحصانة لأشخاص ارتكبوا جرائم حرب يهز من مصداقية القضاء المحلي ولذلك فإن الهدف من المحكمة الجنائية ألا يفلت مجرم من العقاب، وهو ما يجسد المبادئ السامية للقانون الذي يجب أن يحمي المواطنين والأجيال القادمة laquo;فلا حصانة لأحد إلا بالقانونraquo;. ويجب على الدول العربية ألا تستند على عدم انضمام دول كبرى لمعاهدة روما أو المصادقة عليها.. بل يجب أن تنظر لمصالحها في وجود قانون قوي وعدالة دولية لا تميّز، ولا تكيل بمكيالين، ولا تستخدم الانتقائية في القضايا، وألا تختار من تحاكم ومن لا تحاكم وإذا تمّ هذا فإن البلدان العربية ستكون هي الرابحة في النهاية.
ختاماً أشكر كل من علق على مقالتنا السابقة، وربما نعود للموضوع مستقبلا.
التعليقات