محمد السعيد ادريس

المزاج الأمريكي من حالة ldquo;الثورة العربيةrdquo; الراهنة أميل إلى التفاؤل، لكنه تفاؤل مشوب بكثير من الحذر، ولعل تسمية الرئيس الأمريكي باراك أوباما لهذه الحالة بـrdquo;ربيع العربrdquo; أكثر المسميات دقة في التعبير عن هذا الإدراك الأمريكي، فربيع العرب ليس كله وروداً وياسمين، لكنه ربيع تجتاحه عادة رياح خماسينية تعكر صفوه، وهي رياح تحذير للعرب بأن دوام الحال من المحال، فالصيف قادم لا محالة، ومن الفطنة الاستعداد والتهيؤ المبكر لما يحمله صيف العرب من سخونة تجبر بعضهم على الرحيل صوب الشمال . لكن، يبدو أن صيف العرب السياسي سيرغم الكثيرين من هؤلاء الذين اعتادوا على الهروب شمالاً إلى البقاء تحسباً لما قد يحدث من مفاجآت غير محمودة، ولأن الأمريكيين يدركون ذلك ويعرفونه فإنهم مع سعادتهم المكبوتة بما يحدث في دنيا العرب من تحولات، يحرصون أيضاً على الحذر من مفاجآت غير مرغوبة قد تحدث، كما أنهم لا يألون جهداً في سبيل جعل هذه التحولات تعمل في مصلحة ما يخدم الأهداف والمصالح الأمريكية، وإعادة لملمة الخيوط التي مزقتها رياح تلك التحولات التي فاجأ معظمها مؤسسات التخطيط السياسي والاستراتيجي الأمريكية .

فعلى امتداد التطورات العربية الممتدة من تونس إلى مصر ثم إلى ليبيا واليمن وبعدها إلى سوريا، من دون إغفال للمرور الحذر بدول عربية أخرى في الخليج والمشرق العربي ومغربه، يحرص الأمريكيون على اتباع سياسة ثلاثية، الأولى بخصوص دول المفاجأة، أي تونس ومصر، اللتين لم تستطع الولايات المتحدة أن تكون طرفاً مباشراً في صنع أحداثهما، حيث تسعى إلى تعويض ما فات وخلق قنوات تواصل مع الأطراف الرئيسة الفاعلة في إدارة السياسة بالبلدين عبر أدوات دبلوماسية، وأخرى مالية، وثالثة استخباراتية وإعلامية، الهدف منها العودة إلى فرض واشنطن طرفاً مشاركاً في إدارة تلك السياسة لتأمين مسار عملية التحول الثوري في البلدين بما لا يتعارض مع المصالح الأمريكية في أسوأ الافتراضات، وبما يخدم هذه المصالح في أحسنها .

أما السياسة الثانية فهي بخصوص الدول العربية التي ما زالت تعيش حالة التحول الثوري مثل ليبيا واليمن وسوريا، والدول المحتمل أن تنتقل إليها رياح هذه الحالة، حيث يحرص الأمريكيون على أن يكونوا حاضرين وبقوة وفعالية للتحكم المبدئي في إدارة الأزمات داخل تلك الدول، عن طريق هندسة عملية التحول بما يؤمّن مسارها في اتجاه لا يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، على نحو ما يجري في ليبيا واليمن وسوريا، وعن طريق التحسب لأي تطورات مفاجئة في الدول التي ما زالت رياح التحول السياسي كامنة أو مكبوتة .

السياسة الثالثة، ربما تكون الركيزة الأهم وهي تأمين وتقوية النفوذ والوجود الأمريكي السياسي والعسكري في الدول العربية الصديقة التي لها اتفاقيات تنظم هذا النفوذ مع واشنطن . ذلك أن واشنطن ليست في حالة تسمح لها بالتفريط في أي نفوذ نجحت في تخليقه داخل أي موقع على الأرض العربية، وعلى الأخص الخليج والعراق، ولعل هذا ما قد يفرض مجدداً تجديد الحوار حول أمن الخليج العربي ومقترحات تأسيس منظومة أمن إقليمي خليجي، من منطلق الوعي بجدية الحرص الأمريكي على أن يبقى هذا الأمن في اليد الأمريكية .

بهذا المعنى نستطيع أن نفهم فحوى البيان الذي أصدرته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بمناسبة قيام الكيان الصهيوني، فقد جاء ضمن هذا البيان أن ldquo;الشرق الأوسط يمر بمرحلة تغيير سريعة جداً، إنها لحظة فيها الكثير من المجهول، ولكن أيضاً تشكل فرصةrdquo;، كما نستطيع أن نفهم فحوى ما جاء في تصريحات أدلى بها وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس أمام معهد ldquo;أمريكان انتربرايزrdquo; المحافظ في واشنطن (24/5/2011) حول اهتمام الولايات المتحدة بتمديد وجودها العسكري في العراق، ومن ثم نفوذها السياسي، على عكس ما نصت الاتفاقية الموقعة بين بغداد وواشنطن في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2008 بانسحاب القوات الأمريكية من العراق وفق جداول زمنية تنتهي في أواخر عام ،2011 فقد صرح غيتس بأنه ldquo;إذا ظلت بعض الوحدات العسكرية الأمريكية في العراق بعد فترة الانسحاب المحددة لجميع القوات الأمريكية بنهاية هذا العام، فسيكون ذلك مطمئناً لدول الخليج العربية، لكن لن يكون كذلك بالنسبة لإيرانrdquo;، مضيفاً: ldquo;وهذا شيء جيدrdquo; .

غيتس كان قد بادر في زيارته المفاجئة لبغداد في إبريل/ نيسان الماضي بتحذير المسؤولين العراقيين من مغبة اقتراب موعد انتهاء الوجود العسكري الأمريكي في بلادهم من دون اتخاذهم أي خطوة أو إجراء لبحث هذا الموضوع، أي موضوع التمديد لبقاء بعض هذه القوات والتوقيع على اتفاق جديد ينظم ذلك بقوله: ldquo;انتبهوا، الوقت ينفد في واشنطنrdquo; . ومنذ تلك الزيارة بدأت الإدارة الأمريكية بإدارة حراك قوي جداً داخل العراق بهدف دفع العراقيين إلى طلب تمديد الوجود العسكري الأمريكي، ولم تكن زيارة زلماي خليل زاد السفير الأمريكي الأسبق إلى بغداد إلا من أجل هذا الغرض .

الأمريكيون ومن أجل فرض هذا الخيار يلجأون إلى ترويع العراقيين من مغبة انسحابهم من العراق عبر العديد من الوسائل، فهم يقولون للعراقيين إن عليهم أن يعرفوا جيداً أن عودة القوات الأمريكية مجدداً إلى العراق استجابة لحاجات أمنية عراقية مستقبلاً ستكون أمراً صعباً، وأن صعوبتها تقترب من المستحيل .

هذه الضغوط الأمريكية ربما تنجح في إقناع أطراف عراقية للمطالبة بوضع اتفاقية تعاون أمني واستراتيجي جديدة مع الولايات المتحدة تسمح للأمريكيين بالاحتفاظ بالعدد الذي يريدونه من قواتهم ودعم القواعد العسكرية بالعراق بعد عام 2011 تحت غطاء من وجود حالة ملحّة تفرض بقاء هذه القوات، أبرزها حجة تدريب القوات الأمنية العراقية على مختلف الأسلحة من مخلفات الجيش الأمريكي، وحجة صدّ ومواجهة التهديدات والتحديات الخطرة التي تواجه العراق سواء من تنظيم القاعدة أو الميليشيات المسلحة أو التدخلات الإيرانية . ولعل ما ورد في التقرير الذي قدمه فريدريك كاجان من معهد ldquo;أمريكان انتربرايزrdquo; (24 مايو/ أيار 2001) بشأن ldquo;استخدام إيران لجماعات مسلحة بالوكالة يشكل أخطر تهديد للأمن في العراقrdquo; ما يؤكد جدية هذا المسعى الأمريكي .

لن ينسحب الأمريكيون من العراق، إذن؟ التطورات التي يشهدها العراق الآن تؤكد ذلك، وربيع العرب يؤكد ذلك، لكن ما يؤرق الأمريكيين أن رياح هذا الربيع العربي أخذت تمتد إلى العراق، وهدفها الأول هو تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي، وعندها سوف يضطر الأمريكيون إلى استنشاق بعض نسمات هذا الربيع، ولكن بنكهة عراقية دامية .