خالد الجابر

ثورات الربيع العربي ليست انقلابا على ديكتاتور استباح الوطن لعقود طويلة ولا يزال يرغب في الاستمرار في الحكم لمدة أطول ويورثه من بعده إلى أولاده أو عشيرته أو قبيلته أو طغمته. بل هو انقلاب تام على مرحلة تاريخية مظلمة عاش فيها الوطن والمواطن في كهوف وسجون تحت الأرض وفوقها، ورغم الصراخ والأنين والشكوى والضيم والمذابح والجوع والفقر لسنوات عجاف، لم يتحرك احد لا في الداخل ولا الخارج، ولم يتغير الحال بل ظل القابضون على السلطة والمقربون منها والمطبلون لها هم الأسياد في وسط مدينة تحول سكانها إلى خدم وعبيد؟! مدينة أشباح تتماهى مع مدينة quot;وينستون سميثquot; (Winston Smith) الكئيبة، في رواية الكاتب الانجليزي جورج اورويل (George Orwell) الشهيرة، ألف وتسعمائة وأربع وثمانون (1984)، حيث تختطف الماضي والحاضر والمستقبل مجموعة حقيرة من الساقطين والجواسيس والمنافقين، وأي شخص يرغب بتحدي قبضة السلطة والتسلط والرقابة ينتهي إلى حبل المشنقة، فكل من يعيش في عالم quot;الأخ الأكبرquot; (Big Brother) وقوانينه، وجب عليه الخضوع والخنوع والتعاون والخيانة. وكل الخيارات الأخرى ملغاة، فلا صوت يعلو فوق صوت السلطة وقراراتها؟! الرئيس أو الملك أو الأمير أو الأخ الأكبر في الرواية هو الحاكم الآمر الناهي المفكر والمفتي والمشرع، هو شخصية مستبدة، لكن لا يعرف أحد إن كانت شخصية حقيقية موجودة تحكم فعلا أم أنها مجرد خيال، والذين يديرون السلطة هم مجموعة تعيش في الظل أو ما وراء الستار. الأخ الأكبر صنع له عالما خاصا يختلف عن العوالم الاستبدادية النمطية، عالم له أيدلوجياته وأفكاره وشعاراته وتسمياته وهتافاته الخاصة به وحده، له منطقة الخاص في فهم السلطة وأدواتها وتطبيقها على الشعب بطريقة تضمن له الاستمرار والسيطرة والقضاء على كل من يفكر في التغيير والإصلاح نحو الأفضل، لأنه ببساطه الإصلاح والتغيير يعني زوال النظام الديكتاتوري إلى الأبد.
الإنسان في رواية اورويل التي استعرضها (لونوفيل اوبسيرفاتير) يموت ويباد في الليل وفي النهار، تحت الأضواء على السرير، في العتمة من دون تقرير واحد عن ظروف الاعتقال يختفي الناس ببساطة وتتم السيطرة على ماضيهم لان السيطرة على الحاضر والمستقبل من وجهة نظر الأخ الكبير لن تتم إلا بالسيطرة على الماضي وتحويل لغة الناس المتبعة في الكلام والكتابة والتفاهم إلى لغة مشفرة، فاللغة هي الأداة الأساسية للهيمنة السياسية، والإقناع والسيطرة، وهي وسيلة تحقيق الهيمنة الشاملة على الواقع وعلى عقول المواطنين معا. إن هدفها النهائي ليس تحقيق السيطرة على ما يستطيع الإنسان الجديد التعبير عنه، بل صياغة كلية لكل ما يستطيع قوله وما يمكنه التفكير فيه كذلك، إن اللغة الجديدة هي التجسيد للغة المنتهكة، لغة الحزب العارية من قدرة اللغة التمثيلية أو التصويرية وتحقيق الهيمنة.rlm; بعد أن تنتهي من قراءة الرواية افتح خريطة العالم وانظر إلى مواقع الدول العربية التي تحتل الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا وحاول أن تحصي عدد الدول التي تنطبق عليها أحداث الرواية غير الدول التي ثار شعبها في وجه الديكتاتوريات العربية الجمهورية، وأسقط المقولة التي دشنتها عهود الاستبداد خلال فترة سيطرتهم على مقادير البلاد والعباد، والتي بدأ بها اوريل الجملة الأولى في روايته في سخرية لاذعة quot;كان يوما باردا ومشرقا من أيام نيسان، وكانت الساعات تدق الثالثة عشرةquot; في بزوغ اللحظة التي لم نكن نتوقع أن تقع في زمننا هذا وفي بداية هذه السنة بالذات. وما زلنا نتساءل بحيرة ودهشة وقلق دون الوصول إلى إجابة مقنعة شافية، كيف حدث ذلك؟ ولماذا الآن وليس أمس أو غدا! وكيف استطاع مارد الشعوب العربية الخروج من قمقمه وهو الذي في حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا؟!
إن الثورات العربية بتلك الفئة المؤمنة التي خرجت للشارع في تحد لجبروت النظام وأدواته وأسلحته الفتاكة ودباباته العتيدة وجيوش المرتزقة والشبيحة، اقرب لترنيمة رواية quot;الحرب والسلامquot; (War and Peace) حيث يلغي تولستوي (Leo Tolstoy) دور الفرد الذي تم تضخيمه في دفاتر التاريخ التي سطرها كتاب السلطان، ويقدم روح الجماعة، فالتاريخ هو الناس التي تصنع الأحداث، وهو الشعب الثائر من رحم المعاناة الذي يهزم الديكتاتور ونظامه وجيشه العتيد الجبار، والذي كانت تعجب به الطبقة الارستقراطية المتخمة والفاسدة في روسيا في حديثها عن نابليون ومسيرته (حيث استطاع وهو عسكري برتبة ملازم أن يصبح امبراطورا؟!)، وكان تولستوي يقدح فيها ويشكك في ولائها لوطنها وانتمائها لثقافته وهي تذكرنا بالكثير من الكتاب العرب. لقد بين تولستوي الفرق بين الهزيمة أمام نابليون في الحرب في النمسا والانتصار في روسيا. فالحرب الأولى لم تكن حرب وطن وشعب، بل حرب طبقة وفئة تستغل الشعب وتحركه لمصالحها الذاتية، كما فشلت بعض الثورات العربية التي حملت أجندات خارجية. لكن في روسيا كانت المعركة يقودها شعب تجاوز الخوف والألم والمعاناة وخاض المعركة وانتصر فيها بمجابهة الديكتاتور في الخارج بعدما حارب الديكتاتورية في الداخل، كما انتصر الشعب في تونس ومصر على نظام الديكتاتور، فلن يتحرر الوطن من الخارج إلا بعد أن يتحرر من الداخل. والفرق بين المثقف الحقيقي والمزيف عشناه في ختام مسيرة تولستوي quot;محطة الهزيمة الأخيرةquot; (The Last Station)، في تخليه عن صفته كأحد النبلاء والانضمام إلى عامّة الفلاحين، وترك كل ما يملك ليتفرغ لحياة الكفاح والاكتفاء بعيشة الكفاف بحثا عن صفاء النفس والسمو بها عن ملذات الدنيا وتخليصها من شوائب المادة ليختصرها في مقولته الذهبية الخالدة: ldquo;إن الثروة تفسدناrdquo;، وهو درس لكل المنافقين والمتاجرين والمنافحين عن السلطة ومساحي الجوخ والأحذية في الدول العربية الذين شاهدناهم يستميتون في وسائل الإعلام والمحطات الفضائية وفي وسائل الإعلام الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي للمنافحة عن بن علي الهارب من تونس وانهيار حكم مبارك المريض في مصر ولا يزالون يدافعون عن المراوغ غير الصالح في اليمن، والأسد التائه في الغابة!! وكل ذلك لأجل ثمن بخس وتقرب من السلطة.
لا يسعنا إلا أن نحيي ذاك الموقف الذي أقدم عليه بعض المثقفين في الخليج بمشاركة 184 كاتبا وحقوقيا وناشطا من السعودية وقطر والكويت والبحرين والإمارات، تجاوزوا فيه التوجه الرسمي لحكوماتهم الصامتة والمتفرجة على ما يحدث وقاموا كأضعف الإيمان بإصدار بيان يعلن تضامنهم مع الشعب السوري ومع مطالبته بحريته وخياره المدني المستقل، ورفضهم المجازر الوحشية والتعديات التي يرتكبها النظام، مطالبين بطرد سفراء النظام الذي يقتل شعبه من دولهم.
فاصلة أخيرة:
أربعة أو خمسة
يأتون في دبابة
فيملكون وحدهم
حرية الكتابة
والحق في الرقابة
والمنع والإجابة
والأمن والمهابة
والمال والآمال
والتصويب والإصابة
وكل من دب
ولم يلق لهم أسلابه
تسحقه الدبابة
*احمد مطر