لماذا ينتصر laquo;حزب اللهraquo; للنظام في سورية؟
خالد الدخيل
الحياة
ليس من الصعب في العالم العربي تبني الطائفية وتغليف ذلك بمفاهيم، وادعاءات يراد لها التغطية على حقيقة الأمر. حصل في هذا العالم ما هو أكثر من ذلك. حزب laquo;البعثraquo; الذي تأسس على فكرة عروبة علمانية شاملة انتهى به الأمر أن أصبح غطاء لحكم عائلة سنية (صدام حسين) في العراق، وحكم عائلة علوية (حافظ الأسد) في سورية. لم يتمكن صدام من توريث الحكم لأحد أبنائه، لأن الغزو الأميركي عاجله وأسقط حكمه وسلمه لقوى سياسية شيعية. في هذه الحالة يمكن القول إن فكرة حزب laquo;البعثraquo; سقطت في العراق ضحية لمكر التاريخ، الذي حولها عملياً إلى مطية قادت العراق نحو حكم طائفي يستظل بالاحتلال. في سورية تمكن حافظ الأسد من توريث الحكم لابنه بشار الذي يواجه الآن ثورة شعبية تطالب بإسقاط النظام الذي يحكم باسمه. اللافت أنه عندما انفجرت الثورة في سورية كان حزب laquo;البعثraquo; قد فقد صوته، ولم يبقَ منه إلا الاسم وشيء من الرسم التذكاري. تراجع الحزب، وتلاشى تدريجياً أمام سطوة العصبة، ومتطلبات الثقة لا الكفاءة. والسؤال الذي يشغل كثيرين في داخل سورية وخارجها هذه الأيام: أين كوادر حزب laquo;البعثraquo;؟ أين أدبيات وشعارات الحزب؟ لماذا لم تعد كوادره قادرة على مواجهة laquo;مؤامرة تحاك خيوطها في الخارجraquo;؟
لكن عند عتبة السؤال تبدو المفارقة في أجلى صورها. في الداخل لم يعد الحكم في سورية بحاجة الى حزب laquo;البعثraquo; قدر حاجته الى الأجهزة الأمنية. أما في الخارج فهو بحاجة أكثر إلى حزب آخر، في بلد آخر، وبسحنة أيديولوجية أخرى. الحكم في سورية بحاجة إلى laquo;حزب اللهraquo; اللبناني. هنا تتقاطع خيوط المصالح السياسية مع خيوط الانتماء الطائفي. قد لا يكون من السهل وصم النظام السوري بأنه طائفي، لكن ليس من السهل أيضاً وصفه بأنه نظام علماني، وهو يعتمد في شرعيته وبقائه على أهل الثقة من العائلة والطائفة. من ناحية أخرى، الحاجة السياسية لعائلة حكم علوية في الشام بغالبيتها السنية ترتبط بحزب شيعي اثني عشري في لبنان، حيث الطائفية السياسية هي مرتكز الحكم. إيران هي الرابط المشترك والأهم بين النظام في الشام والحزب في لبنان. وإيران هذه دولة دينية شيعية تستند إلى laquo;ولاية الفقيهraquo;. ربما أن شبكة العلاقات والمصالح هذه فرضتها مصادفات جغرافية وتاريخية، خصوصاً أن النظام في سورية لا ينتمي لا أيديولوجياً ولا سياسياً إلى الفضاء الثقافي لـ laquo;ولاية الفقيهraquo;. لكن ما ليس مصادفة أن ارتباط laquo;حزب اللهraquo; بإيران هو ارتباط استراتيجي بدولة لديها مشروع إقليمي، وبالتالي فولاء الحزب النهائي هو لطهران، وليس لدمشق، مع الاعتراف بأن حاجته الى الأخيرة أكثر من ضرورية في هذه المرحلة. ومن هنا يبرز مأزق النظام السوري: حاجته الى الحزب جزء من حاجته الى الورقة اللبنانية في المنطقة، وهي حاجة وجودية، وليست حاجة سياسية مرحلية كماهي حاجة الحزب للنظام. ويتعمق المأزق عندما نعرف أن النظام السوري لا يملك مشروعاً في المنطقة أكثر من محاولة البقاء في الحكم وإعادة إنتاج نفسه. جاءت الاحتجاجات الشعبية لتضع النظام أمام إشكاليته المصيرية: إما الإصلاح والخروج من الدولة، أو الهاوية. هذا السؤال، وفي هذه اللحظة، هو أيضاً سؤال مصيري بالنسبة الى laquo;حزب اللهraquo;، وذلك لأن المشروع الذي ينتمي إليه لا يزال في بدايته، ولا يزال في حاجة ماسة لبقاء النظام السوري.
وهذا يعيدنا إلى السؤال الذي ختمت به مقالة الأسبوع الماضي: لماذا اختار laquo;حزب اللهraquo;، وهو حزب مقاوم، الانتصار للنظام ضد الشعب في سورية؟ كان المفترض به إما أن يأخذ موقف الحياد تمشياً مع دقة اللحظة، ودقة موقفه هو تحديداً، وإما أن يأخذ جانب الشعب تمشياً مع حقيقة أن هذا الشعب يقاوم استبداد النظام، من حيث أنه يتسق مع التزام الحزب بالنهج المقاوم. لكن أن الحزب اختار الوقوف إلى جانب النظام يؤكد أموراً عدة. أولها أن المشروع الذي ينتمي إليه الحزب له الأولوية على حقوق ومصالح الشعب السوري. ثانياً أن ارتباط الحزب بالنظام السوري هو جزء من ارتباطه بإيران، وليس العكس. ثالثاً، أو نتيجة لكل ذلك، أن مفهوم المقاومة في استراتيجية الحزب خاضع لمتطلبات علاقته بإيران ومشروعها الإقليمي، وهذا المشروع يتطلب بقاء النظام السوري. من هنا، وإلى جانب هويته الدينية، فإن مفهوم الحزب للمقاومة ناقص ومحدود جداً. هو لا يتسع للحرية بمعناها الإنساني والسياسي الواسع، ولا يتجاوز حدود التحرر من الاستعمار الأجنبي. وهذا على رغم أنه في الحالة العربية، وفي شكل خاص الحالة السورية، تحول الاستعمار الأجنبي، بخاصة الصهيوني في فلسطين، إلى أيديولوجيا لتأبيد الاستعمار الوطني المستبد في الداخل. والنتيجة أنه بعد أكثر من نصف قرن من الصراع توسع الاحتلال الصهيوني للأرض، وبالتوازي معه ترسّخ الاستبداد في الداخل. ما يعني أن مفهوم المقاومة الذي يتبناه laquo;حزب اللهraquo;، ويؤيده النظام السوري، إلى جانب أنه مصلحي وآني، هو مفهوم سقط تاريخياً، ولم يعد صالحاً، خصوصاً في إطار موجة الثورات الشعبية العربية.
على رغم ذلك يصر الأمين العام للحزب، السيد حسن نصرالله، على أن من العناصر التي تبرر وقوف الحزب إلى جانب النظام السوري أنه laquo;نظام مقاوم وممانعraquo;. وهو بهذا الرأي ليس صادقاً مع جمهوره، ولا يقدم بمثل هذا خطاباً مقاوماً، بقدر ما أنه يقدم خطاباً مراوغاً، كما هي عادة السياسيين. وإلا كيف يكون النظام السوري نظاماً مقاوماً، وقد فشل في تحرير أرضه أربعة عقود متتالية، وأبقى جبهته مع العدو، على رغم ذلك، من أهدأ الجبهات طوال هذه العقود، ولم يردّ على أي من الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، والتي كان آخرها تدمير ما يقال إنه مفاعل نووي في دير الزور؟ كيف يكون نظاماً مقاوماً وهو لا يتوقف عن مناشدة الولايات المتحدة رعاية مفاوضات جادة مع إسرائيل، وهو من اخترع تعبير laquo;السلام خيار استراتيجيraquo;؟
ربما قيل إن انتصار الحزب للنظام السوري مقابل الشعب هو من نوع الخطأ، أو الانزلاق غير المحسوب في خيار ليس في مصلحة الحزب. الأكيد أن موقف الحزب ليس في مصلحته. لكن عندما نأخذ الاعتبارات السابقة، وبشكل خاص طبيعة علاقة الحزب مع النظام السوري، وتداخلها مع علاقته الاستراتيجية مع إيران، يتضح أن موقف الحزب من النظام السوري هو امتداد طبيعي للموقف الإيراني. وهنا نحتاج إلى استعادة ما لاحظه الكاتب اللبناني وجيه كوثراني في كتابه laquo;بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيهraquo;، من تمييز بين laquo;السياسات العامة للأمة الإسلاميةraquo; كما يرسمها الولي الفقيه في طهران، وبين laquo;التفاصيل... المتروكة للأحزاب الإسلامية القطرية المرتبطة بالولي الفقيهraquo;. ولعله من المعروف الآن أن علاقة laquo;حزب اللهraquo; بإيران هي علاقة ولاء كامل كما يترجمها تبني الحزب النهائي لمبدأ laquo;ولاية الفقيهraquo;، وأن هذا أحد المبادئ الثلاثة التي التزم بها الحزب منذ تأسيسه، بحسب نائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم. وبحسب قاسم أيضاً، laquo;ولاية الفقيهraquo; هي ولاية laquo;مطلقة وعامةraquo;، و laquo;تشمل كل صلاحيات النبي والأئمة المعصومين من دون نقصان أو استثناءraquo;. في هذا الإطار: إلى ماذا ينتمي الموقف من الثورة الشعبية السورية: إلى السياسة العامة التي يرسمها الولي الفقيه؟ أم إلى التفاصيل التي يقررها الحزب بحسب ظروفه الداخلية؟ إذا كانت علاقة laquo;حزب اللهraquo; بالنظام السوري ليست منفصلة عن علاقته بطهران، بل هي امتداد لها، وإذا كانت الحكومة الإيرانية هي أول من أعلن وقوفه مع النظام في دمشق، وأول من وصف الاحتجاجات الشعبية هناك بأنها مؤامرة أميركية إسرائيلية، فإن الموقف من الثورة الشعبية السورية، ومن مصير الحليف العربي الوحيد لطهران، لا يمكن أن يكون تفصيلياً يعود تقريره إلى الحزب، بخاصة أنه حدث على مستوى الإقليم، وينبئ في حالة سقوط النظام السوري، بإعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية، بما يهدد بإنهاء النفوذ الإيراني في منطقة الشام. وبما أن النظام في إيران هو نظام ديني وطائفي بحسب الدستور الذي يستند إليه، ويعتمد سياسة إقليمية مستمدة من هذا الدستور، كيف يمكن، والحالة هذه، الفصل بين الباعث الطائفي وراء موقف الحزب من الأحداث في سورية، وبين مفهومه للمقاومة؟
في إصراره على المكابرة.. النظام السوري يقوّض نفسه بنفسه
قاسم عز الدين
السفير اللبنانية
الاصلاحات التي يعد بإجرائها النظام السوري، يمكن أن تُنفّس احتقان علاقته بتركيا ودولraquo;المجتمع الدوليraquo; وبعض المعارضة، لكنها لا تُلغي أسباب الأزمة بين السلطة والغالبية العظمى من الشباب والفئات الاجتماعية التي تعرّضت لتهميش السلطة. فالنظام ما زال مصراً على تأويل الأحداث في رواية تشيح بوجهها عن وعي الشعب السوري بحقوقه الاجتماعية وحرياته السياسية كباقي الثورات العربية. وفي تأويله هذا يأمل النظام تعزيز السلطة في استكمال إصلاحات بدأها laquo;بسرعة دون تسرّعraquo;. وتدلّ هذه المقاربة على أن النظام يسعى إلى الحوار في إصلاحات فوقية تخدم أجنحة وفئات نافذة في السلطة وحدها. وهي الإصلاحات الدستورية والهيكلية نفسها تقريباً التي تأمل دول laquo;المجتمع الدوليraquo; الوصول منها إلى النيل من ممانعة النظام، سوى أن هذه الدول تتوخى أن تخدم أيضاً أجنحة laquo;منفتحَةraquo; من المعارضة. وسواء تبنّى النظام إصلاحات تخدم السلطة وحدها أم تخدم أيضاً القوى laquo;المنفتحَةraquo; الأخرى، يتيح المجال واسعاً لعبور laquo;المخطط الأميركي ـ الصهيوني ـ السلفيraquo; من laquo;الثغرةraquo; السورية على شكل laquo;دفرسوارraquo; مضاد لسوريا وللثورات العربية في آن. فدول laquo;المجتمع الدوليraquo; لا تتقصّد اليوم النيل من ممانعة النظام، إنما تتقصّد إجهاض مسار الثورات العربية من سوريا، والحؤول دون امتدادها إلى لبنان والعراق والأردن والسلطة الفلسطينية وربما أبعد. وهي تعتقد أن القوى النافذة التي تلبي الإصلاحات الدستورية وlaquo;الهيكليةraquo; مصالحها وطموحاتها، كفيلة، على المدى الأبعد، بأن تنحو نحو مزيد من laquo;الانفتاحraquo; ونحو ما يسمى الاستقرار والسلام. لكن الفئات الشبابية والشعبية laquo;المغَرَّر بهاraquo; تنتفض من أجل تجديد النظام في تفكيك سيطرة السلطة والحزب الحاكم على مرافق ومؤسسات الدولة. وذلك لمواكبة الثورات العربية في التحرر من استراتيجيات وسياسات laquo;المجتمع الدوليraquo;، والتحرر كذلك من استبداد السلطة وهدر الحقوق. ولا يكون تجديد النظام بغير ثورة من فوق أو من تحت، تشارك في صنعها laquo;الفئات المُغرّر بهاraquo; بالضغط والمراقبة والاقتراح على غرار ميدان التحرير في القاهرة وميدان القصبة في تونس. وهذه المشاركة في الميدان هي خير سدّ أمام محاولة عُبور الثورات المضادة الداخلية والخارجية من الجبهة الشرقية. ويبدو أن النظام لا يأبه لخطورة مسؤوليته التاريخية في إمكانية إجهاض الثورات العربية، وفي أَثر إجهاضها الثقيل على ممانعة سوريا وعلى المقاومة وعلى لبنان وفلسطين والأردن والعراق وحتى على إيران وتركيا.
لقد ساهم النظام السوري بممانعته الطويلة وفي دعم المقاومة، بإعاقة استراتيجيات دول laquo;المجتمع الدوليraquo; في تعميق الإنهيار العربي وتطويع المنطقة وفي إعاقة تخريب الاكتفاء الذاتي والاستقرار الإجتماعي في سوريا. وفي هذه المساهمة، مهّد بين عوامل كثيرة أخرى، لانطلاق الثورات العربية في مسار طيْ مرحلة الإنهيار والتطويع ووقف التخريب الاقتصادي والاجتماعي. ولقاء هذه المساهمة غضّـت الغالبية العظمى من السوريين (والعرب) الطرف عن مظالم النظام في هدر الحريات السياسية وباقي الحقوق الإنسانية. بل ساندته في الأوقات العصيبة وضحّت بالغالي والنفيس في تحمّلها المسؤولية الوطنية والقومية، حفاظاً على صوت رسمي ممانع خارج اصطفاف النظام الرسمي العربي وراء laquo;المجتمع الدوليraquo;. ومن جهته تحمّل النظام ضغوطاً وتهديدات شتى وفي أوقات متلاحقة طويلة. لكنه قطف مقابل ممانعته ثمار احتكار السلطة لكل مؤسسات الدولة ومرافق الحياة السياسية والاجتماعية أكثر من أربعين عاماً. وحصد غلّة ممانعة إقليمية استراتيجية تؤهله لدور الشريك المؤثر في الحقل الإقليمي، وفي العلاقة الصعبة مع دول laquo;المجتمع الدوليraquo;. وقد أمسك، نتيجة ممانعته، بجزءٍ مهم من الملفات الفلسطينية واللبنانية والعراقية والعربية والإيرانية. وفرض على دول laquo;المجتمع الدوليraquo; اعتماده شريكاً أو محاوراً رئيساً لا مناص منه في فترة أو أخرى. كما فرض على هذه الدول أيضاً أن تحاذر مجابهة النظام خوف انعكاس عدم استقراره على باقي الملفات الشائكة.
لكن الثورات العربية طوَت مرحلة الانهيار والتطويع والتخريب الإقتصادي ــ الإجتماعي. وطوَت مع تلك المرحلة laquo;استراتيجيةraquo; اعتماد عاملي الممانعة والمقاومة وحدهما في مواجهة استراتيجيات وسياسات دول laquo;المجتمع الدوليraquo;. فهذه الاستراتيجيات والسياسات راكمت منذ منتصف السبعينيات ضحاياها في انهيار الأمن القومي والمصالح الوطنية، وفي انهيار دور مؤسسات الدولة والمرافق العامة، وفي القضاء على الاستقرار الإجتماعي في الأمن الغذائي والتعليم والصحة والعمل... إلخ كما راكمت مصالح الطبقة السياسية وlaquo;رجال الأعمالraquo; وراء laquo;الانفتاحraquo; في نهب الثروة العامة والتسلّط على الدولة وفي استبدادها وتسلّحها بقمع الأجهزة الأمنية والحماية الخارجية. ولم تخضع الغالبية الساحقة المتضرّرة من الانهيار والتطويع والتخريب، يوماً. وقد نضج غليانها إثر الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالمنظومة الناظمة لهذه الاستراتيجيات والسياسات، من فشل حروب الأمبراطوريات في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، إلى أزمات البطالة والطاقة والمناخ والغذاء والأزمة المالية... إلخ، وفي خضم هذا العصف المأكول لم يخترع الشباب الثائر ثورة عربية من لا شيء. لكنهم أعادوا الهرم المقلوب على رأسه إلى قاعدته الطبيعية. وهي قاعدة تجمع في سلّة واحدة بين التحرر من الإلحاق السياسي والتبعية الاقتصادية والغزو العسكري والأمني، وبين الحقوق الإجتماعية والثقافية، والحرية من استبداد السلطة وفساد الطبقة السياسية وزبائنتها من laquo;رجال الأعمالraquo;. وما زال هذا المسار في بداياته لكنه يعبّر عن تحوّل جذري نحو مسار مرحلة تاريخية جديدة تحاول الثورات المضادة الخارجية والداخلية إجهاضها بشتى السبُل. ولا تشذ سوريا عن هذا المسار الذي يعصف في كل البلدان العربية. فهو يطرح على النظام إمّا التخلّف عن مواكبة التحوّل نحو الإكتفاء بالممانعة، وبإجراء إصلاحات فوقية في السلطة تصب في نهاية المطاف في طاحونة الثورات المضادة الخارجية والداخلية. وإمّا توظيف رصيد الممانعة في ثورة من فوق تحمي سوريا وتفضي إلى توسيع وتعميق مسار الثورات العربية في كل بلدان الجبهة الشرقية.
والسلطة السورية شانها شأن كل سلطة حكمت عقوداً طويلة، نمت في أحشائها مراكز قوى وفئات تتعارض مصالحها وطموحاتها مع التحوّل نحو تحقيق أهداف الثورات العربية. وقد نمت مصالح وطموحات هذه القوى والفئات طيلة مرحلة الممانعة في الأجهزة الأمنية وفي الحزب الحاكم وفي إدارات الدولة. وفي laquo;الاقتصاد الاجتماعيraquo; الذي أتاح استيلاء حاشية السلطة، وراء laquo;الانفتاحraquo;، على الأرض والقطاعات الإنتاجية والتجارة. وقد وصلت هذه المجموعات عام 2005 إثر الانسحاب السوري من لبنان، إلى مقايضة رئيس الجمهورية حول إطلاق أيديها في الفساد والاستبداد مقابل دعم سياسته في استمرار الممانعة. وفرضت انفتاح laquo;السوق الإجتماعيةraquo; على المصالح الأوروبية في طريق حرية التجارة وlaquo;الشراكةraquo; والإستثمار الخليجي في الريع العقاري وlaquo;المنتجعات السياحيةraquo; وغيرها. وفي خمس سنوات تجاوزت عائداتها عشرات مليارات الدولارات من أشكال السمسرة والتجارة والريع وحماية أعمال laquo;المستثمرينraquo;. وكان من نتائج ازدهار هذه القوى والفئات في أحشاء السلطة، أن تدهورت الأرياف وانهار الاستقرار الاجتماعي بانهيار الاكتفاء الذاتي من الغذاء الذي حمى سوريا من تأثير الضغوطات الأميركية والأوروبية وقت شدائد امتحانات الممانعة. كما كان من نتائج ازدهار laquo;أعمالهاraquo;، استفحال البطالة والفقر وزيادة الهوّة بين الفوارق الإجتماعية في الأرياف وهوامش المدن، إلى جانب استبداد السلطة وقمع الأجهزة الأمنية. ولا عجب والحالة هذه أن تبدأ الاحتجاجات من درعا ضد نفوذ المتسلطين على الأراضي في منطقة زراعية هي عماد السيادة الغذائية السورية من الحبوب. ولا عجب أيضاً أن تلحق بها الأرياف والهوامش السورية، فيما يراهن كبار تجار دمشق وحلب على استمرار شراكتهم مع أصحاب النفوذ في السلطة، بانتظار أن يقفزوا من القارب حين تشتد الاحتجاجات وتتجذّر الانتفاضة الشعبية، وحين تشتد ضغوط laquo;المجتمع الدوليraquo; لمحاصرة النظام.
وضغوطات laquo;المجتمع الدوليraquo; على النظام السوري قديمة ـ متجددة، للنيل من ممانعته ودعمه للمقاومة. لكن دول laquo;المجتمع الدوليraquo; ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والقانونية تنشغل في زمن الثورات العربية بهموم إيقاف مسار الثورات عن التوسّع في كل بلدان المنطقة. وتشنّ ضدها ثورات مضادة تسعى إلى تفريغ الثورات من مضمونها التحرري الوطني والاجتماعي والثقافي. وتسعى إلى تلغيم مسار الثورات إلى laquo;إصلاحات هيكليةraquo; هي عبارة عن نسخة أشدّ وطأة من إصلاحات منتصف السبعينيات. وفي هذا السياق تضغط دول laquo;المجتمع الدوليraquo; على النظام السوري لإجراء إصلاحات دستورية تتيح منافسة المعارضة على السلطة، متوخية قطع الطريق على مسار الثورات العربية. ومن جهته يسعى النظام إلى حصر الإصلاحات نفسها تقريباً في السلطة. لكن مسار الثورات العربية تجاوز أحلام دول laquo;المجتمع الدوليraquo; وتجاوز وعود السلطة في هذه الإصلاحات. فهو مسار ثورة من فوق أو ثورة من تحت، نحو دولة مستقلة عن الإلحاق والتبعية ومستقلة عن سيطرة السلطة على مؤسسات الدولة ومرافقها العامة. وما زال هذا المسار يتيح أمام النظام السوري فرصة تجديد نفسه في ثورة من فوق، تُجنّبه وتجنّب المنطقة بأسرها عُبور الثورات المضادة الخارجية والداخلية من laquo;دفرسوارraquo; الجبهة الشرقية. والأمر لا يحتاج إلى كل هذه الجهود الأمنية والعسكرية والإعلامية التي يحرّكها النظام لمواجهة laquo;المؤامرات الخارجيةraquo; والداخلية. إنما يحتاج إلى إلتحاق أجنحة الممانعة في النظام، بمسار الثورات العربية والإعتماد على laquo;الفئات المُغرّر بهاraquo; والفئات التي لم يُغرّر بها في مسار تجديد النظام، وفي مواجهة الثورات المضادة الداخلية والخارجية. فالثورة من فوق لا تتم في الغرف المغلقة ولا في إعداد التقارير والخطط العرقوبية، ولا حتى في الحوار مع المعارضة السياسية وغيرها. فهي تتم في ميدان المرجة وساحات التحرير حيث سلطة الشباب وبسطاء الناس نحو مشروع دولة لا مشروع سلطة. وحيث مآل الثورة في مواجهة الثورات المضادة الخارجية والداخلية مرهون باستمرار الضغط والمراقبة والاقتراح، كما هو ميدان التحرير في القاهرة وميدان القصبة في تونس. فالأهم من الإصلاحات نفسها هو أن يشارك الشباب وبسطاء الناس في صناعتها.
وهذه المسؤولية التاريخية هي في عمقها مسؤولية حماية مسار الثورات العربية من الثورات المضادة الخارجية والداخلية التي تسعى إلى العبور من laquo;دفرسوارraquo; الجبهة الشرقية. وهي مسؤولية تاريخية تقع على عاتق القوى الممانعة في النظام السوري من أجل توظيف ميادين التحرير في ثورة من فوق تتيح توسيع مسار الثورات العربية في لبنان وفي الأردن وفي العراق وفلسطين وربما أبعد. فسوريا هي بيضة القبان في إنجاز التحوّل على المدى الأقرب في كل هذه المنطقة، بينما ثقل الثورة في مصر حاسم استراتيجي على المدى الأبعد. وأعداء هذه المسؤولية التاريخية هم في أحشاء السلطة والأجهزة الأمنية وفي laquo;الاقتصاد الاجتماعيraquo; المرتبط بالسلطة وبسياسات laquo;المجتمع الدوليraquo;. وهم أيضاً في اعلام السلطة، وفي النُخبة السياسية والثقافية التي تفتقد جرأة النقد البنّاء فتتملّق ممالئة. أما الأعداء الآخرون أينما كانوا في الداخل أم في laquo;المجتمع الدوليraquo;، لا يزنون مثقال ذرّة أمام ثورة من فوق رصيدها الممانعة وميادين التحرير.
الظروف ما زالت متاحة على الرغم من جرح عميق أصاب الشعب السوري البطل، إلاَ إذا بقي النظام مصراً على المكابرة في تقويض نفسه بنفسه. فمن سنن الخالق في خلقه أنه إذا أراد أن يخرب النَمل، يخلق لها أجنحة فتطير.
التعليقات