رفيق عبد السلام

لا شك أن الثورات العربية قد صنعت واقعا سياسيا جديدا في المنطقة العربية برمتها فرض نفسه على الجميع، وما عاد من الممكن تجاهله. فقد أضحت مسألة التغيير، استحقاقا ضاغطا على جميع الأنظمة العربية مشرقا ومغربا منذ أن اضطر الرئيس التونسي المخلوع إلى مغادرة تونس يوم 14 يناير (كانون الثاني) إلى غير رجعة. ربما تنجح عمليات القمع الموسع على نحو ما يفعل القذافي، وبشار الأسد، ومن قبلهما علي عبد الله صالح في ربح بعض من الوقت وتمديد أنفاسهم أكثر، ولكنهم قطعا لن يستطيعوا إيقاف عجلة التغيير. لقد اكتشف الشارع العربي قوته الذاتية بعدما تخطى حاجز الخوف وحول مواقع الردع إلى الجهة الأخرى، وليس من اليسير اليوم إرجاعه إلى المربع الأول الذي كان يقبع فيه مكرها لعقود طويلة. إن عملية التغيير التي نرى مخاضها اليوم في العالم العربي، كان من المفترض أن تتم منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي على منوال ما جرى في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. فأوضاع العالم العربي، سواء كان ذلك بمعايير السياسة أو الاقتصاد، لم تكن أحسن حالا من تلك الرقعة من العالم التي أنجزت شعوبها ثوراتها الخاصة منذ سنة 89. والحقيقة أن الذي أجل أو صادر عملية التغيير في المنطقة العربية منذ ذلك الوقت ليس قلة طلب الشعوب أو إعاقاتها الثقافية على ما تقول أدبيات الاستشراقيين الجدد، بقدر ما يعود الأمر إلى التحالف الضمني والمعلن الذي تم نسج خيوطه بين القوى الكبرى ومعسكر الاستبداد السياسي العربي منذ نهايات الحرب العالمية الثانية تحت عنوان الحفاظ على الأمن والاستقرار، الذي ظل يمثل لعقود طويلة أحد أسس السياسة الدولية، وخصوصا الأميركية، في المنطقة إلى جانب وضع اليد على منابع النفط وحماية أمن إسرائيل.

ما أظهرته الثورة التونسية هو أن العالم العربي ليس موحدا فقط من جهة الجغرافيا السياسية واللغة والمشاعر العامة فحسب، ولكنه موحد أيضا من ناحية الأزمات الكبرى التي تعصف به، وفي مقدمة ذلك مشكلة الاستبداد السياسي الهائل والفساد المالي الواسع اللتين يعاني منهما جل الأقطار العربية تقريبا. وهذا ما يفسر أن ما جرى في تونس التي تقع على الضفة الغربية من العالم العربي، كانت له ارتدادات في سائر العواصم العربية تقريبا. وما كان محليا وجزئيا في تونس فقد أخذ بعدا عربيا وإقليميا أوسع بانتقال الثورة إلى القاهرة مركز الثقل العربي الأكبر.

لقد ظل العالم العربي خلال السنوات الأخيرة موزعا بين ما سمي بمعسكري الاعتدال والممانعة، إلا أن الثورات العربية فككت خطوط التمييز بين هذين المعسكرين، إذ هي ضربت في قلب عواصم laquo;الاعتدالraquo;، مثلما ضربت في معسكر laquo;الممانعةraquo;، في سوريا وليبيا واليمن. وربما تبدو الملكيات العربية اليوم أرسخ قدما من أخواتها الجمهوريات من جهة اعتمادها على شرعية تاريخية ودينية، ولكنها قطعا ليست بمنأى هي الأخرى عن استحقاق الإصلاح، وفي مقدمته مطلبا ضبط آليات الحكم ومحاربة الفساد.

ولعل أهم رسالة وجهتها الثورات العربية هي أن عملية التغيير ليست مستحيلة، بل هي ممكنة وبأقل التكاليف والتضحيات، مقارنة بعمليات تغيير مجهضة، بل كارثية قادتها جماعات عنفية في بلدان عربية كثيرة مثل مصر والجزائر وليبيا واليمن وغيرها، بما منح للشارع العربي ثقة في نفسه وغذى الشعور بالقدرة على تغيير المعادلات وتحريك المياه السياسية الراكدة.

لكل عصر روحه ووجهته العامة التي تفرض نفسها على الحاكمين والمحكومين على السواء، والعاقل من التقط مقتضيات الزمن من دون مكابرة ومعاندة، فكما كانت بدايات القرن العشرين مؤشرا على صعود القوميات واندفاعة الآيديولوجيات الشمولية، ومثلما كانت نهاية الحرب العالمية الثانية مؤشرا على صعود الليبراليات، يمكن القول إن عصرنا العربي الراهن يمثل علامة فارقة على صعود الثورات السياسية المدفوعة بمطلبي الحرية والكرامة المصادرتين لعقود طويلة، وليس بمقدور أي قوة اليوم أن تقف في وجه هذه العاصفة مهما أوتيت من أدوات القوة وسطوة المال. ربما أعطى القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار الأسد فسحة من الأمل لمعسكر الاستبداد العربي في إمكانية تمديد أنفاسهم من خلال الاستخدام المفرط للعنف وسياسة خلط الأوراق، ولكن ليس ثمة ما يبين جديا أن هؤلاء سيصمدون طويلا أمام هذه الموجة العاتية. لقد أدرك الأميركيون والأوروبيون بغريزتهم البراغماتية، وبعد أن أخذتهم الأحداث على حين غرة، أن عقيدتهم السياسية في المنطقة القائمة على مبدأ الاستقرار، والتي هي في الحقيقة عبارة عن عنوان مخفف لدعم الجمود السياسي، لم يعد من الممكن الدفاع عنها إلى ما لا نهاية، وهم يحاولون اليوم مسايرة الموجة الجديدة والعمل على ضبط وجهتها من خلال استخدام القوة الناعمة، ومن ذلك الدبلوماسية وتحريك الذراعين الاقتصادية والمالية على نحو ما أفصح عن ذلك خطاب أوباما مؤخرا في وزارة الخارجية، ثم قمة الثماني التي انعقدت في فرنسا أواخر الشهر المنصرم، وحتى ساركوزي الذي ظل سندا قويا لابن علي إلى الرمق الأخير، اضطر في نهاية المطاف إلى القفز إلى الضفة الأخرى، والتحول بسرعة البرق إلى داعم قوي لـlaquo;ربيعraquo; الثورات العربية، خاصة بعد أن منحته ثورة ليبيا طوق النجاة.

الشيء المؤكد أن ما يجري في المنطقة العربية أمر جلل ولا يقتصر أثره وتداعياته على بعض الحكومات دون غيرها، بيد أن الإشكال يتعلق بمدى قدرة الحاكم العربي على إدراك هذه الحقيقة، فيقدم على قطع الخطوات المطلوبة، وبأقل كلفة ممكنة، ربحا للوقت وحقنا للدماء واقتصادا في الأرواح. فلو أن الرئيس السوري بشار الأسد لم تأخذه العزة بالإثم، وبادر بترتيب وضعه، بدل ذلك الخطاب الخشبي الذي ألقاه في مجلس النواب عند اندلاع المظاهرات في وجهه قبل شهرين، لكان في وضع أفضل مما هو عليه اليوم، وما امتدت بقعة الزيت إلى هذا الحد الذي نراه.

بيد أن ما ذكرناه أعلاه عن أمراض وعاهات الحكومات العربية يجب ألا يحجب عنا الحاجة إلى الحديث عن الطرف الآخر من المشهد السياسي العربي الراهن والمستقبلي، أعني بذلك القوى السياسية laquo;الجديدةraquo; التي أفرزتها الثورات العربية.

لا شك أن الاستحقاق الديمقراطي، وفي مقدمة ذلك النزول عند الإرادة الشعبية عبر انتخابات حرة ونزيهة، قد غدا ضرورة لأزمة في مرحلة الثورات العربية وما بعدها، ولم يعد بمقدور أي حاكم عربي اليوم أن يجلس على كرسيه من دون أن يكون مسنودا بالرضا الشعبي العام. ولكن ما يجب الانتباه إليه هو أن مرحلة الانتقال الديمقراطي تحتاج إلى غلبة المنزع الوفاقي بدل الروح التنازعية الصفرية، ومن ذلك انتهاج سياسة الترضيات والمساومات السياسية بين التيارات السياسية المتنافسة فيما بينها، حتى يشعر الجميع بأنه لا يوجد طرف أو أطراف قد أخذت كل شيء مقابل أطراف أخرى قد خسرت كل شيء، بما يغريها بإفساد اللعبة السياسية من أساسها على نحو ما رأينا ذلك في انقلاب الجيش الجزائري سنة 1992. الثورات العربية، شأنها في ذلك شأن كل الثورات، لا بد أن توجد فيها قوى رابحة وأخرى خاسرة، بيد أنه يتوجب على القوى الجديدة التي صعدتها الثورة أن تترفق بنفسها والآخرين، وألا تأخذها نشوة الانتصار إلى حد الاستفراد بالوضع من دون أخذ مصالح الآخرين بعين الاعتبار. وفعلا نحن في أمس الحاجة اليوم إلى الحديث مجددا عما سميناه بالديمقراطية الوفاقية أكثر من أي وقت مضى. ربما اكتسبت هذه الكلمة دلالة قدحية بحكم ما تلبس بها من أبعاد طائفية وإثنية في الحالتين العراقية واللبنانية، ولكن هذا لا ينفي العودة إلى الدلالة الأصلية لهذا المفهوم، بما هو قدرة على اجتراح التسويات والوفاقات بين القوى الاجتماعية والسياسية المتنافسة من أجل تأسيس معادلة سياسية هادئة ومستقرة تسمح بإدارة الآليات الديمقراطية.

تستهوي الكثير من المثقفين العرب مقولة الثقافة الديمقراطية، وهم يقصدون في الغالب الأعم بعض القيم الليبرالية على النحو المتعارف عليه غربيا، باعتبارها شرطا للديمقراطية، وقد يذهب بعضهم إلى حد القول بأنه لا ديمقراطية من دون ليبرالية. لكن يبدو لي أن هذا الرأي لا يصمد كثيرا أمام واقع تعدد التجارب الديمقراطية، حيث اشتغلت المنظومة الديمقراطية في بيئات ثقافية وسياسية مختلفة من أفريقيا إلى آسيا إلى أميركا الجنوبية ولم تكن كلها ليبرالية. بيد أن ما هو أهم من القيم الليبرالية الجوهرية التي يقصدها الكثير من المثقفين العرب هو إعمال آلية الوفاقات والمساومة السياسية. إن أهم خصلة من خصال الديمقراطية على ما يذكرنا جون رولز، أحد أهم آباء الليبرالية الأميركية، تعود إلى كونها توفر الفضاء المناسب لتأسيس ما يسميه بالوفاقات المعقدة. فخلافا للأنظمة الشمولية التي ترسم حدود المربع السياسي بطريقة مسبقة وفوقية، فإن النظام الديمقراطي وبحكم ما يتوافر عليه من فضاءات للحرية والتداول الحواري المفتوح يجعل من الحلول التوافقية بين مختلف القوى السياسية المتنافسة أمرا ممكنا، بل مرغوبا فيه.

وفعلا فإن الطابع السلمي والهادئ نسبيا للثورات العربية يعطي الأمل بأن تغلب روح الشراكة على منزع الانفراد والهيمنة، وأن تتخلص هذه التجارب من آفة لازمت الثورات الحديثة غالبا، هي آفة الانتقام ووهم البداية من الصفر، على نحو ما فعل يعاقبة الثورة الفرنسية ومن بعدهم بلاشفة روسيا وماويو الثورة الصينية وإسلاميو إيران.

وبغض النظر عمن ستكون له الغلبة في صناديق الاقتراع، يجب أن تسود الروح الوفاقية والقبول بنتائج الانتخابات، على أمل أن تتجه الأمور فيما بعد نحو تشكيل حكومات ائتلافية تشارك فيها مختلف القوى السياسية الفاعلة من دون انفراد أو هيمنة، بما يسمح بوجود معادلة سياسية معقولة تتيح مواجهة ركام الأزمات التي خلفتها حقب الاستبداد والفساد الطويلة.

ثمة كثير من السجالات الآيديولوجية طفت على السطح سواء في تونس أو في مصر خلال الأشهر الأخيرة، وهي مرشحة أن تطفو في بلدان عربية أخرى تعيش مخاض التحول، لا مبرر لها أصلا، ومن ذلك الاستقطاب الحاد حول مسألتي العلمنة والأسلمة. فقد أقرت جل الدول العربية، بما في ذلك تلك الموصوفة بالتحديثية الجذرية كما هو الأمر في تونس، بأن دين البلد الإسلام ولغته العربية، ويمكن لعنصري الإسلام والعروبة ضمن هذه الحدود أن يمثلا رافعة أساسية للديمقراطية الوليدة من دون حاجة إلى الدخول في متاهات الاستقطاب الآيديولوجي. التحدي الرئيسي المطروح اليوم لا يتمثل في مبدأ العلمنة أو الأسلمة، بل هو تحدي الدمقرطة والتخلص من الميراث التسلطي ثقيل الوطأة في العالم العربي.

المساحة العامة التي من المفترض أن يتم الاتفاق حولها هي الإسلام والعروبة بدلالتهما العامة، ثم إبعاد الدولة عن مساحة الاختيارات الفردية، فليس من مهمة الدولة فرض الأسلمة أو العلمنة الفوقية، بل إن من أولى وأوكد مهام الدولة حماية السلم المدني وخدمة الخير العام للمجتمع، وليس أكثر من ذلك. ثمة نموذجان فاشلان في محيطنا الإقليمي الإسلامي يجب التوقي منهما، ليس ثمة ما يغري بتكرارهما، أولهما تجربة العلمنة الفوقية على منوال تركيا الأتاتوركية، ثم خيار الأسلمة الفوقية على الطريقة الإيرانية.