بداية الحكومة... القرار الاتهامي!

راجح الخوري
النهار اللبنانية
نزل القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه على رأس البيان الوزاري لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي مثل صاعقة استدعت جلسة طويلة من المداولات في قصر بعبدا قبل الاعلان عن إقرار ذلك البيان بنصه.
ولأن النص لم يكن معلنا، بدا واضحا ان مداولات اعضاء الحكومة تركزت على الفقرة الموجزة او المستعجلة المتعلقة بالمحكمة الدولية، التي اراد البعض ان يتجاهلها انسجاما مع موقف quot;حزب اللهquot; الذي يرفض المحكمة ويعتبرها quot;مؤامرة اسرائيليةquot;، بينما لم يكن في وسع البعض الآخر ان يتحمل هذا التجاهل وما قد ينجم عنه عندما يقف لبنان في وجه مجلس الامن والشرعية الدولية.
وجاء المخرج من خلال صيغة تقول ما معناه إن الحكومة ستتابع مسار المحكمة بما لا يسيء الى الاستقرار في لبنان (!) وهنا يبرز الالتباس، وخصوصا عندما نتذكر ان من سيقرر الاساءة او عدم الاساءة الى لبنان في مسار المحكمة هو هذه الحكومة، التي يقول تجمع 14 آذار إنها صناعة quot;حزب اللهquot; الذي ينظر الى المحكمة الدولية على انها مؤامرة، بما يعني ان quot;الاساءةquot; المشار اليها حاصلة.
في اي حال، ما تسرب عن القرار الاتهامي لجهة الاسماء ومذكرات التوقيف الدولية لا يضيف جديدا الى ما وضع في التداول الاعلامي بهذا الشأن منذ عامين، وكان من نتائجه تعطيل حكومة الرئيس سعد الحريري ثم الانقلاب عليها وتعديل الاكثرية البرلمانية قسرا. لكن من الضروري ان نلاحظ ان كل هذا لم يلغ صدور القرار الاتهامي، وان حكومة ميقاتي تواجه الآن خيارات صعبة، اذ كيف يمكنها quot;متابعة مسار المحكمةquot; اذا لم تقم بتسليم المطلوبين؟ وكيف يمكنها تسليمهم اذا كان quot;حزب اللهquot; يرفض المحكمة ويقول إن القرار الاتهامي لا يعنيه؟ واستطرادا، كيف ستتعامل الحكومة مع مجلس الامن بعد شهر وهي المدة المحددة للتسليم؟ وماذا اذا قرر المجلس الذهاب الى الضغوط والعقوبات استنادا الى الفصل السابع الذي انشئت المحكمة على اساسه؟
لقد كان واضحا منذ البداية ان المحكمة ستوجه الاتهامات الى اشخاص بعينهم لا الى احزاب او دول. وعلى خلفية هذا، وبعد وصول القرار الاتهامي، تبدو نظرية سعد الحريري عن quot;العناصر غير المنضبطةquot;، التي قدمها الى السيد حسن نصرالله، فرصة تنطوي على كثير من التضحية وحس المسؤولية الوطنية لا ندري لماذا ضاعت، ولا لماذا قوبلت بما قوبلت به!
في اي حال، الاتهام موجه الى اشخاص، فليس مقبولا اي تسييس وهو امر يجمع عليه اولياء الدم مثل كل اللبنانيين. واذا كان في وسع المحكمة ان تحاكم غيابيا، فليس في وسع الحكومة اللبنانية ان تتنصل من واجبها امام الشرعية الدولية.
نعم، إنها لحظة تاريخية كما قال سعد الحريري في بيانه المسؤول امس. لحظة الحقيقة والعدالة التي تفرض عدم التشويش على مسار العدالة، وتدعو حكومة ميقاتي سياسياً ووطنياً وقانونياً واخلاقياً الى تنفيذ التزامات لبنان تجاه المحكمة.
رضوان السيد
العرب والمحكمة الجنائية الدولية
الشرق الأوسط
أثارت لدي إحالة العقيد القذافي وابنه ومدير مخابراته على المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؛ مشاعر مختلطة، بعكس ما حدث عندما أُحيل الرئيس السوداني عمر البشير على المحكمة نفسها قبل عدة سنوات. فقد كنتُ وقتَها مؤيِّدا لمحاكمة البشير دوليا، بسبب الافتقار إلى الأجواء والأدوات اللازمة لمحاسبته ومحاكمته إذا اقتضى الأمر بالداخل السوداني أو الأفريقي. وفي ظلّ الثورات العربية، وتشديدها على مسائل المحاسبة والمحاكمة والمعاقبة إذا اقتضى الأمر، صار لهذه القضايا طعمٌ آخَرُ لا يصحُّ تجاهُلُهُ أو إهمالُهُ أو عدمُ أَخْذه في الاعتبار.
لقد أدّى الصراع الثقافي في الحرب الباردة إلى التكون التدريجي لقيمةٍ عليا تتصل بالإنسان وحقوقه، وهي ضرورة عدم نجاة المرتكبين لجرائم ضد الإنسانية (على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي) من العقاب. وقد ترتّب على ذلك إصدار القانون الدولي الإنساني (والذي يبيح التدخُّل في مناطق سيادة الدول لمكافحة تلك الجرائم والقبض على مرتكبيها ومحاسبتهم)، كما ترتّب على استعلاء تلك القيمة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، التي استندت إلى اتفاقية روما، أي على الالتزام الطوعي بالتوقيع، وهو ما لم تقم به دولٌ قليلةٌ من بينها الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل، حتى الآن! والواقع أنّ شكوكا ظهرت منذ البداية لدى دول العالم الثالث على الخصوص، لإمكان اختراق سيادتها بحججٍ وذرائع غير مقْنعة، وسط صراع القيم والمصالح. ثم إنّ تلك الشكوك ازدادت عندما لم توقّع كلٌّ من الولايات المتحدة وإسرائيل على اتفاقية المحكمة الجنائية، خوفا من ملاحقة عسكرييها وسياسييها الذين تورطوا في أعمال قمعٍ وقتلٍ واختراقٍ للسيادة ولحقوق الإنسان، في دولٍ أُخرى، مثلما فعلت الولايات المتحدة في عشرات البلدان وآخِرُها أفغانستان والعراق، ومثلما فعلت إسرائيل وتفعل على الأراضي الفلسطينية وتجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية الأُخرى. بيد أنّ فظائع تفكك يوغوسلافيا السابقة في التسعينات، والمذابح المليونية في رواندا وبوروندي، واستيلاء زعيم عصابة على السلطة في ليبيريا دونما وجود طريقةٍ أُخرى للمحاسبة؛ كلُّ ذلك أَضعَف من قوة الانتقادات، وإن لم يُزِلْها.
وما اختفت ولا تراجعت أعمالُ العنف والاضطهاد الجماعي من جانب السلطات الوطنية أو القوى المهيمنة الكبرى في شتّى بقاع الأرض بعد انتهاء الحرب الباردة، التي كانت انقساماتُها تُغطّي على الفظائع بحسب انتماء المرتكب إلى أحد المعسكرين؛ لكنْ تركَّز قسمٌ كبيرٌ منها في العالمين العربي والإسلامي، ومن جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، كما من جانب بعض الأنظمة العربية والإسلامية. وما أمكنت مساءلةُ الولايات المتحدة، حتى عندما كانت تغزو البلدان أو تتدخل عسكريا فيها ومن دون قرارٍ من مجلس الأمن مثلما حدث في غزو العراق. أما إسرائيل فما حدثت إدانةٌ أو مساءلة قانونيةٌ لأحد كبار عسكرييها أو سياسييها لأنّ الولايات المتحدة كانت تحميها وما تزال؛ وذلك باستثناء بعض التقارير المُدينة مثل تقرير غولدستون بعد الحرب على غزّة، والذي أقرّتْه لجنة حقوق الإنسان الدولية، دون أن تترتّب عليه إداناتٌ جنائيةٌ ودائما لأنّ الولايات المتحدة عارضت إحالته على مجلس الأمن!
ومنذ عام 2004 بدأت الإدانات الدولية لتصرفات الحكومة السودانية في دارفور، أحد الأقاليم السودانية. وانتهى الأمر بإحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية، حيث أصدر أوكامبو مدعي عام المحكمة قرارا باعتقال الرئيس السوداني وشخصين آخرين. وقد سلَّم أحد المتهمين نفسه، في حين ما يزال عمر البشير رئيسا للسودان، وينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ دون أن يحاول أحدٌ القبض عليه وتسليمه لأوكامبو. وما تزال بعض الدول تتعامل مع الرئيس البشير وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي ما تزال تُجاولُهُ وتأخذ منه تنازُلاتٍ أهمّها انفصال جنوب السودان عن شماله، وإرغامه على التفاوُض والاتفاق على حلٍّ سياسي في دارفور! وهكذا فقد جاء أخيرا القرار الثاني ضد زعيمٍ عربي آخر هو معمر القذافي يتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحقّ شعبه، ويطلب اعتقاله هو وابنه ومدير مخابراته، وتسليمهم للمحكمة الجنائية الدولية أيضا.
لقد كانت laquo;العدالة الدوليةraquo; انتقائيةً إذن، لأنها ما طُبّقت على الجميع وفي سائر الحالات المُشابهة. إنما كما سبق القول؛ فإنّ هذه الانتقائية لا تُبرِّر في الواقع التمرد على المحكمة الجنائية الدولية أو عدم احترام قراراتها؛ بل المطلوب التعاوُن مع المحكمة إذا كانت الجرائم الهائلة هذه قد وقعت بالفعل، والاستمرار في المطالبة بأن تكون العدالةُ شاملةً لكلّ الحالات. وبخاصةٍ أنّ هذا قد حدث في حالة رئيس صربيا والمرتكبين الآخرين، كما حدث في حالة رئيس ليبيريا، وبعض كبار المجرمين في مذابح رواندا وبوروندي. وما اختلف الموقفُ من وجهة نظري بين حالة البشير وحالة القذافي إلاّ بسبب الثورات الشعبية العربية. إذ علينا أن لا ننسى أن القيمتين الرئيسيتين في هذه الثورات هما الكرامة والحرية. فالناس يحسُّون بظُلمٍ شديدٍ تفاقم عبر حِقَبٍ متطاولة، تكاثرت فيها المشكلات ذات المنشأين: تلك الناجمة عن عدم التصدي للمشكلات القائمة بالحلّ، وتلك الناجمة عن تفويت الفُرَص، وتجاهُل الإعداد للمستقبل. والإحساسُ الشديدُ بالظُلْم لهذين الأمرين هو الذي ينمّي الإحساسَ بضرورة التغيير، وفي الوقت نفسه ضرورة المساءلة والمحاسبة. فالحريةُ إحساسُ أصيل، واستلاب أُمور الناس منهم بذرائع باطلة، إحساسٌ أصيلٌ آخَر، لا يكفي فيه من الناحية الأخلاقية استرداد شأنهم العام لإدارتهم؛ بل يرتبطُ بذلك ما يقولُهُ الصوفيةُ المسلمون عن مقام الرضا؛ إذ يعرِّفونه بأنه: الإنصاف والانتصاف. وهكذا ففي حالة البشير كانت العدالةُ المتوافرة هي العدالةُ المستعارة، وكانت هي الطريقة الوحيدة لإضعاف النظام أو إسقاطه بملاحقة رؤوسه وإدانتهم. أمّا اليومَ، في عصر الثورات؛ فإنّ المحاسبة الشعبية هي السبيلُ المفضَّلةُ للانتصاف.
لقد كانت هناك محاولاتٌ طويلةٌ ومريرةٌ بين القذافي والبشير من جهة، والنظام الدولي من جهةٍ ثانية. ونحن نعرفُ أنّ القوى الكبرى استطاعت وقبل سنواتٍ إخضاعَ كلٍّ من القذافي والبشير وابتزازهما دونما اهتمامٍ كثيرٍ بما يفعلانه بالداخل. وكانت المحكمة الجنائية الدولية بين أدوات الابتزاز والإخضاع في حالة البشير وقد تعامل معها نظامُهُ بهذه الطريقة الفاهمة والمستوعِبة. وما توقّفت القوى السياسيةُ السودانيةُ عن المطالبة بزوال البشير ونظامه واستبداده، لكنها كانت مستنزفةً ومترددةً بسبب مخاطر الانقسام بين الشمال والجنوب بداعي أفعال نظام البشير والترابي، وبسبب الاضطراب الذي أثارته أفاعيل النظام بدارفور وأبيي وولايات أعالي النيل وجنوب كردفان. ثم قامت الثورتان في تونس ومصر، ونشرتا قيمتي الكرامة والحرية، فصارتا تقليدا عربيا وربيعا عربيا، وصار ضروريا أن تعود العدالةُ عدالةً لا ثأرا فئويا، ولا ابتزازا دوليا.
المطلوب الآن، وقد دخلت الأمةُ العربيةُ في زمنٍ آخَر؛ أن تتولى الجهات القضائية في بلدان الثورة المساءلة والمحاسبة من طريق القضاء، كما يحصل في مصر وتونس. ولن تحصُلَ المصالحة الحقيقيةُ إلاّ بهذه الطريقة. وهناك من يقول (من العرب وليس من غيرهم): لننس ما مضى، ولنتطلع إلى المستقبل! لكنّ هؤلاء جميعا يعرفون أنّ الإحساس بالظلم عميقٌ في النفوس، وأنّ أحاسيس الكرامة الإنسانية تستعصي على النسيان. فالناسُ ليسوا جرذانا وليسوا جراثيم، وإنما هم بشرٌ مثل سائر البشر. وإذا كانت هناك عدالةٌ دوليةٌ بالمواصفات المعروفة، فلماذا لا تكون هناك عدالة عربية: laquo;إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكَّرونraquo;.