القدس


أصدرت المحكمة الدولية في لاهاي في الاسبوع الماضي أمر اعتقال للعقيد معمر القذافي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية. قال القذافي نفسه في المدة الاخيرة ان 'ظهره الى الحائط'، وأعلن أنه 'لا يخاف الموت'، وأن 'معركة في مواجهة الغزو الغربي ستستمر الى النهاية'. يمكن بطبيعة الامر أن نتناول هذا الاعلان باستهزاء أو بامتعاض لان حقيقة أن مستبدا قاسيا يظهر شجاعة شخصية لا تجعله صدّيقا. لكن يحسن ان نصرف الى هذا الامر تفكيرا آخر كي يتبين لنا أن الامور ربما لا تكون كما تبدو بالضبط. ان شيئا من التاريخ لن يضر.
مع ذلك تبدى القذافي خلال عشرات السنين التي مرت منذ تولي السلطة على صورة طراز مختلف الالوان ومعقد جدا. فهو من جهة انسان مفكر، يبدو أنه يبحث عن طرائق أصيلة للاحسان الى شعبه وبلده والعالم، أو شبه فيلسوف اجتماعي سياسي رفض في 'كتابه الاخضر' الشيوعية والرأسمالية معا واقترح ايديولوجية بديلة هي تأليف بين تصور اجتماعي اسلامي وقومي عربي. ومن جهة ثانية هو رئيس دولة معتدية تمنح منظمات ارهاب ومستبدين من جميع الأنواع رعاية وهي مشاركة مباشرة في عمليات قاتلة كانت ذروتها اسقاط طائرة البان أمريكان فوق لوكربي في اسكتلندا في 1998 وهي العملية التي قتل فيها نحو من ثلاثمائة انسان.
بدأ التحول في مطلع سنوات الالفين. فبعد الحادي عشر من ايلول هاجم القذافي القاعدة بشدة. وبعد سنة من ذلك اعترف واعتذر عن العملية القاتلة فوق لوكربي بل اقترح دفع تعويضات الى عائلات الضحايا. وفي 2003 اعترف بان ليبيا تطور سلاحا للابادة الجماعية وبان لها خطة لتطوير سلاح ذري، ووافق على وقف انتاجه وعلى القضاء على الاحتياطي تحت رقابة دولية. كان سبب 'توبة' الحاكم الغريب خشيته من مصير يشبه مصير صدام حسين. لكن ماذا يهم هذا؟ الاساس أنه غير عاداته. وباختصار أصبح معمر القذافي الذي أحب الجميع كراهيته عزيزا على الغرب يحب الجميع محبته.
فلماذا يبذل الغرب الذي عاد هذا الطائر الغريب الى حضنه، الكثير من الجهود الان للقضاء عليه؟ ما الذي يقف من وراء النشاط الاوروبي الحثيث جدا الذي نجح في جر الولايات المتحدة ايضا، والذي يرمي الى قتل هذا الرجل سياسيا وجثمانيا؟ ليس ما يحدث الان في ليبيا انتفاضة شعبية بل حربا أهلية. ومعسكر الثائرين ليس كتلة واحدة والعناصر المتبينة المتطرفة فيه كثيرة. ومن المعقول جدا اذا خفتت المعارك ان تبدأ في ليبيا فترة اضطراب دامٍ طويلة. هل يخطىء الغرب مرة اخرى كما أخطأ في افغانستان حيث أيدت الولايات المتحدة واوروبا الغربية محاربي طالبان في وجه الاتحاد السوفييتي، والبقية معلومة؟ ولماذا اختار الغرب معسكرا واحدا خاصة وهو لا يشمئز من جرائم الحرب لا المعسكر الثاني؟ ألم يدعُ القذافي علنا 'جميع الشعوب الى منح الرئيس اوباما فرصة والى تأييده لكونه انسانا يعارض الحروب التي تورط فيها رؤساء امريكا السابقون'.
فلماذا يريدون الان القضاء عليه لا على رئيس سورية الذي يذبح أبناء شعبه بقسوة لا تقل عن قسوته؟ ولماذا لا تطير قاذفات حلف الشمال الاطلسي شرقا وتلقى على سورية قذائفها الديمقراطية؟ وقبل وقت غير طويل لم تتجه جنوبا الى دارفور حيث تمت مذبحة شعب حقيقية تحت نظر الغرب الصامت الغضيض.
الجواب هو النفط. النفط والسياسة. فاوروبا الغارقة في مشكلات اقتصادية، والتي تعاني ضعفا سياسيا، تستغل الحرب الاهلية الليبية لتحث مصالحها قدما ولتسيطر على النفط الليبي بواسطة عقود قسرية. كما فعلت دول اوروبا في القرن التاسع عشر وكما فعلت الليبرالية الجديدة والاستعمارية الجديدة بعد ذلك في القرن العشرين. ان جميع المواعظ الاخلاقية والكلام السامي تثير استهزاء مريرا. لانه يصعب أن نهرب من حقيقة ان معمر القذافي هو كبش الفداء الذي أتى ليشفيَ الاخفاقات الاقتصادية والسياسية في الغرب وليخدم مصالحه في الامد المباشر كما هي الحال دائما.

اسرائيل اليوم