محيي الدين تيتاوي

اقترب يوم الفصل.. التاسع من يوليو 2011.. هو يوم تاريخي في مسيرة امتدت لأكثر من سبعة قرون.. قرر الغرب في القرن الماضي القرن العشرين أن ينفصل جزء من السودان، فوضع العوامل التي ستحقق على المدى البعيد حدوث هذا الفصل.. ثم جاء وفرض من خلال مسميات محددة آلية تحقيق ذلك الهدف..فكانت (مبادرة الإيقاد) وتداعياتها والاتفاقية.. وما تبعها من أمور وخطوات لم تخل من استفزاز مشاعرنا ودفعنا دفعاً لنقول للآليات (بشراً كانوا أو عقوبات أو تهديدات) بأن نرمي حبل الوصل إلى داخل سفينة الفصل.. ولنقول لإخوة ربطت بيننا وبينهم الكثير من أواصر الدين والدم والمصاهرة والمعاملة الإنسانية..(عليكم يسهل وعلينا يمهل)..وهي عبارة تقال لمن ألح وأصر وكابر في المفارقة وطلبها والعمل لها.. وتقال للمفارق..عينه قوية.. وتقال لأناس لا يملكون ذرة عاطفة ولا ذرة نظرة إنسانية.. ولا لحظة مراجعة للنفس.. أناس لهم عقول تصلبت مثل ماكينة العربة القديمة المهملة.. وقلوبهم تحجرت ودماؤهم تجمدت تجاه كل ما هو حي يتحرك... أناس تمت برمجتهم مثل الروبوت فصاروا ينفذون الأوامر والتوجهات من على البعد، دون النظر إلى مقتضيات الأحوال.. ودون قراءة للإرث الذي خلفه الأجداد في هذا الوطن منذ بدء الخليقة..
وفي سبيل إنفاذ تعليمات السادة في الغرب جرى فعل المستحيلات وجرى إحداث جراحات ودماء سالت ودموع انهمرت.. في الكثير من جوانب الحياة.. أناس جرى ترحيلهم إلى الجنوب فصاروا بين ليلة وضحاها غرباء في بلادهم التي يسيطر عليها الأعداء.. أسر نصفهم هنا ونصفهم هناك.. أموال وأملاك نهبت وسلبت.. واغتيالات تمت ومستقبل ضاع.. دون أن تحرك كل هذه التداعيات ساكنا في نفوس ومشاعر قطاع الطرق ورعاة البقر الذين وجدوا ضالتهم في الأرض الجديدة الذين كانوا يعملون في الشمال تم إنهاء خدماتهم بطرق متحضرة.. حفلات الوداع.. الكلمات الطيبة.. الدموع والآهات..... من هنا وهناك ولكننا نقول الكلمة الطيبة.. ونودعهم وعلى حلوقنا غصة وعلى مآقينا دموع متجمدة وأحياناً منهمرة.. أما هم فيقومون بنهب أموال التجار ويحرقون ممتلكاتهم ويطردونهم شر طردة ولا يسمعونهم حتى بعض الكلمات الطيبات التي نقولها لإخوة لنا سوف يغادروننا.. ونحن نعلم وهم لا يعلمون بأن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة(أصلها ثابت وفرعها في السماء).
التاسع من يوليو يوم فارق في السودان نفارق فيه خميرة عكننة ظلت تقض مضاجعنا لما يقارب الخمسين عاماً من الدماء السائلة من أبناء أعزاء فقدناهم في سبيل بقاء الوحدة وحدة الدم والعرق والتراب ودفعنا في سبيل ذلك أغلى ثمن بجانب الدماء الغالية حيث توقفت عجلات التنمية في كل أنحاء البلاد.. وصارت حرب الوحدة هي الأساس والمتن. وصارت كل أنحاء البلاد هامشاً كبيراً تأثرت الحياة.. هاجر الآباء والأبناء لأجل سد فجوة الحرب التي دفعت كل بلادنا ثمنها غالياً حرماناً من الاستقرار والحياة الكريمة.. وهجرات إلى بلادنا الدنيا فصرنا عمالة كاملة من العامل والمزارع وحتى المدير والوزير السابقة.. نقلنا كل خبراتنا إلى دول وشعوب الأرض.
والآن نعود إلى أنفسنا لنراجع دفاترنا القديمة.. ونتساءل لماذا استمرت الأحوال هكذا منذ بداية إثارة المشكلة وحتى التاسع من يوليو..ألم تكن لدينا الإرادة السياسية لاتخاذ قرار كهذا الذي حدث على 2005..؟ ألم يكن بوسع ساستنا اتخاذ حق الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو أي شكل من أشكال الحل بهذا الأمر أمام مكائد المستعمر الطامع في أرض جنوب السودان وموارده النفطية والطبيعية!؟ ألم يكن الحكم الذي اختاره النميري بأفضل من الانفصال الذي دخل في جملة مطالب المتمردين؟ وحتى مطلب الانفصال الذي تحقق بالحق أو بالباطل لم يكن من المحرمات في أي وقت من الأوقات تماماً كما حدث من خلال الاتفاقية..فقط إن الذين يقفون في الطرف الآخر من الحكومة السودانية لا يقرأون المجريات بصورة كلية وموحدة.. هم يطالبون في سبيل المكابدة ويقولونها بالصوت العالي في أسمرة وأمام الأسياد.. ولكنهم عندما يتحقق ذلك على غير أيديهم يرون أن في ذلك كفرا وخروجا عن الملة..
يجب علينا بعد التاسع من يوليو أن نعيد النظر في العديد من الأمور ذات الصلة بعلاقاتنا بالدولة الجديدة التي لم يفتح الله على مسؤوليها حتى الآن بالنطق بكلمة طيبة في حقنا.. بعد كل التنازلات التي قدمناها والتضحيات التي دفعناها ثمناً للوحدة واعتبرونا كما خطط لذلك المستعمر البغيض مستعمرين وتجار رقيق وسفاحين وإرهابيين..وأننا ظللنا طوال العهود الماضية ظللنا نضعهم في الدرجة الثانية من المواطنة وهذا أمر غير وارد إلا في أذهان الذين رسموا هذه السياسة وفي ألسنة الذين تم تلقينهم وتدريبهم عليها وفي تزويد ظلم كبير لأهل السودان الذين عرفوا عبر التاريخ بتواضعهم وكرمهم وحسهم الإنساني العالي مما أكسبهم إعجاب كافة شعوب إفريقيا والعالم.. وكيفما أراد المستشارون الصهاينة الذين يديرونه من خلف الكواليس لكل ما يسيء إلى العلاقة بين الشعبين أو لنقل الشعب الواحد المنقسم، فإن هناك علاقة ما سوف تبقى وتزوار وتتجول إلى ثورة معاكسة تعيد اللحمة إلى ما كانت عليه، فحدود السودان الحضاري يمتد بطول النيل حتى المنابع وإلى المصبات..
وبعد إعلان قيام الدولة الجديدة ستحدث متغيرات كبيرة في حياة أهل السودان، حيث سيذهب عنا الكثير من آثار التقارير الأممية السالبة مثل الأمراض المستوطنة ووفيات الأمهات وستتغير معايير النمو السكاني والثقافي.. وستتغير الخارطة الاقتصادية والسياسية والثقافية بل والاجتماعية وسوف تتحرك مؤشرات ذلك عربياً وإفريقياً ودولياً وسوف يتحول موقع السودان ويتقدم على دول إفريقية وعربية عديدة بسبب انفصال الجنوب..نحن اليوم نتخلص من أكبر عقبة حالت دون تقدمنا حيث أهدرت مواردنا كلها تقريباً في الحرب.. وسوف ندخرها لتطوير ونهضة أقاليمنا وبلادنا بصورة شاملة.. فقط المطلوب من صقور الحركة لا تنأى عن العمل ضدنا لأن ذلك سوف يعني عدوان دولة أجنبية علينا وحينها سوف نعيدهم إلى المربع الأول قبيل مفاوضات نيفاشا حيث كان جيش الحركة قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكامل.. إذًا هذه الاتفاقية جاءت لإنقاذ الحركة وجيشها.. وهذا الانفصال جاء وفق اتفاق وليس لأن الحركة انتصرت ميدانياً.. هذه حقيقة معلومة ومحفوظة ولا ينبغي على عرمان أو باقان أن يتحدث حديث المنتصر.. ولن يكون هناك جنوب آخر كما ذكر عرمان في محاضرته بالقاهرة في رمضان الماضي عندما ردد بأن الجنوب إذا انفصل فسوف يكون هناك جنوب آخر! وصفقت له فلول اليسار الهاربة والمتنقلة ما بين القاهرة ونيروبي! ولنا حديث حول ما يحدث هناك.. وما يحدث في فلسطين المحتلة.. وكلاهما وعد بلفور.