عدنان حسين
السودان غدا اليوم سودانين، شمالي كان موجوداً منذ الأزل مع جنوبه وأصبح دولة مستقلة قبل أقل من خمسين سنة، وجنوبي ظل ملاصقاً للشمال منذ الأزل أيضاً وأنفصل منذ ثلاثة أيام فقط ليُشكّل أحدث دولة مستقلة في العالم أول المعترفين بها الدولة الأم التي بقيت في الشمال.
كان يمكن أن يظل السودان موحداً إلى الأبد لو لم تنشأ تلك الظروف التي حملت الجنوبيين على تنكب السلاح دفاعاً عن أنفسهم وحقوقهم، وجعلت حكومات الشمال تعاند وتكابر وتأخذها العزة بالإثم وتركن إلى القوة الغاشمة. وكان يمكن حفظ الكثير مما سال من الدماء وما أُزهق من الأرواح وما أُهدر ودُمر من الممتلكات وفرص التنمية في السودان كله، شمالاً وجنوباً، لو كانت الواقعية هي سيدة الموقف لدى حكومات السودان المتعاقبة على مدى الخمسين سنة الماضية.
استغرق الأمر وقتاً طويلا للغاية لكي تُدرك حكومة الخرطوم، طوعاً أو اضطراراً، أن الاستمرار في الحرب لإرغام الجنوبيين على التنازل عن حقوقهم والتراجع عن مطالبهم هو جنون حقيقي وانتحار جماعي لأهل الشمال والجنوب سواء بسواء، فترضخ للأمر الواقع وتقبل بما أقرته الشرائع والقوانين الدولية القائلة بحق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها بنفسها وليس بقرار أو إرادة أحد آخر.
ما حدث في السودان رسالة قوية إلى سائر الدول العربية ودول المنطقة، ليس فقط تلك التي تتشكل من قوميات متعددة كالعراق وسوريا والمغرب والجزائر وإيران وتركيا وإنما أيضاً لسائر الدول ذات القومية الواحدة والأديان والمذاهب والطوائف المتعددة، فسيادة الجماعة الغالبة، قومياً أو دينياً أو مذهبياً أو طائفياً، واحتكارها السلطة والنفوذ والمال وتهميش الأقليات والتمييز ضدهم إنما يقود إلى الحروب الداخلية والخارجية والى الدمار الشامل، كما حدث في السودان والعراق، وكما يحدث الآن في سوريا واليمن وليبيا.
الحليم من اعتبر بتجارب غيره، ونحن في العراق نواجه الآن أيضاً وضعاً ينطوي على احتمالات قوية بنشوب نزاعات داخلية مسلحة يمكن أن تتجاوز الحدود إلى الجيران لتتحول إلى حرب إقليمية يكون العراقيون من كافة قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وطوائفهم وقوداً لها. لدينا مشكلة كركوك وسائر المناطق الموصوفة بالمتنازع عليها، ولدينا مشكلة التهميش الديني والطائفي والمذهبي والمناطقي التي ترتفع عاليا هذه الأيام الأصوات المعبرة عنها. ولدينا مشكلة المحاصصة التي ينجم عنها تهميشاً سافراً لغير المتحاصصين، ولدينا مشكلة الفساد المالي والإداري التي تُغمط فيها حقوق الكثير من أهل الحقوق، ولدينا مشكلة المحافظات والأقضية والنواحي والقرى والأحياء البعيدة المهمشة، ليس من الحكمة نكران وجود هذه المشاكل.. إنها قائمة بالفعل، وهي متفاقمة يوماً بعد آخر بفعل نزعة الاحتكار (احتكار السلطة والقرار) لدى بعض القوى المتنفذة في العملية السياسية، وهي جميعاً (المشاكل) تؤلّب الناس تأليباً على الشكوى والاحتجاج..... وأخيراً الثورة التي لن يستطيع أحد أن يحدد مسارها ويتحكم بنتائجها مثلما لم يتنبأ أحد قبل ثلاثين سنة بان الحركة المسلحة في جنوب السودان ستنتهي بانفصال الجنوب عن الشمال.
السودان أصبح سودانين بسبب سياسات محتكري السلطة في الخرطوم، والعراق مؤهل لأن يغدو عدة عراقات إن لم يرعوِ الساعون إلى الاحتكار والاستئثار والهيمنة والطغيان في بغداد ولم يكفّوا عن مخططات التهميش والتقليم والتقزيم للآخرين، قومياً ودينياً ومذهبياً وطائفياً وسياسياً.
التعليقات