توفيق المديني

مما لا شك فيه أن إعلان ولادة دولة جنوب السودان يوم السبت 9 يوليو الجاري سيؤدي إلى تغييرات إستراتيجية في المحيط الإقليمي للقارة الإفريقية، وأن هذا الأمر سيمتد إلى حدود دول القارة فضلاً عن تداخل المصالح الدولية مع دولة جنوب السودان الوليدة. وستكون لولادة هذه الدولة الجديدة تداعيات خطيرة على دول الجوار الإفريقي، التي تعاني من المشكلة عينها. ومن شأن قيام مثل تلك الدولة الجنوبية الجديدة نقل العدوى إليها.
فعلى صعيد مصر، ومن ناحية الجغرافيا ndash;السياسية والاقتصادية، يشكل السودان العمق الإستراتيجي الجنوبي لها، والحال هذه فإن الأزمات والصراعات الحالية التي يعاني منها السودان، والتي باتت تهدد وجوده وبقاءه، لها تداعيات مباشرة على الأمن القومي المصري.
فإذا نظرنا إلى التاريخ القريب، أي منذ أوائل القرن التاسع عشر، احتل السودان مكانة إستراتيجية بالنسبة لحركة النهضة الأولى التي قادها والي مصر آنذاك محمد علي باشا. وعلى امتداد قرن ونصف قرن (1820-1956) أنفق المصريون من الأموال في السودان ما لم ينفقوه في أي مجال آخر.
ففي عام 1820، تقدمت جيوش الدولة المصرية لأول مرّة لتقوم بلملمة أطراف المناطق الواقعة جنوبها، ممثلة في سلطنات وممالك قبائل السودان، لتصنع من كل هذا كياناً إدارياً وسياسياً واحداً، وهو الذي اصطلح على تسميته بالسودان. وبينما انصب العمل المصري خلال العشرينيات من القرن التاسع عشر على توحيد السودان، فإنه انطلق خلال ستينيات وسبعينيات القرن عينه لتأمين هذا السودان، سواء بالاندفاع جنوباً حتى أوغندا، أو بالتقدم شرقا إلى الصومال وإريتريا والحبشة، وهي المحاولة التي كلفت الحكومة المصرية عنتاً مالياً شديداً.
في ظل حركة النهضة العربية الثانية بزعامة عبد الناصر، كانت الدولة المصرية تضطلع بدور قيادي للنظام الإقليمي العربي الذي كان في طور الصعود، نظرا لأن النخبة الحاكمة في مصر ذات الأصول العسكريتارية كانت تمتلك مشروعاً وطنياً وقومياً، مَكَّنها من لعب دور إقليمي فاعل في القارة الإفريقية.
بيد أن خصوصية العلاقات المصرية- السودانية، التي ظلت أسيرة الإرث التاريخي للمرحلة الكولونيالية-الأنكلو - المصرية أنتجت فجوات إدراكية نفسية واقتصادية واجتماعية سلبية متبادلة، ولا سيما بين أبناء الشعب السوداني. وعندما تم الانسحاب البريطاني ترك الجنوب مهملا متخلفا عن عمد ليتحمل الشمال عبء هذا الميراث التاريخي. وبالمقابل شكلت سطوة العقلية البيروقراطية العسكرية والأمنية في مصر إعاقة بنيوية في إدارة العلاقات المصرية- السودانية، الأمر الذي جعل سلطة عبد الناصر تسلم بانفصال السودان عن مصر بذلك فورا، ولم تبذل أي جهد يذكر للحفاظ على وحدة وادي النيل بالإقناع والتراضي. وكانت هذه النقطة هي الصخرة التي تحطمت عليها في السابق مفاوضات الجلاء، إذ كان الإنجليز يصرون على انفصال السودان، الذي استقل عن مصر إعمالا لحق تقرير المصير الذي يستخدم الآن لفصل الجنوب! ولكن مع الحفاظ على وحدة السودان. ولكن بدأ التمرد المسلح الجنوبي في عام 1955 ولم يتوقف حتى اتفاقية نيفاشا عام 2005.
في ظل تراجع الدور الإقليمي المصري خلال العقود الأربعة الماضية، وتركيز اهتمامات السياسة عموماً، وإقليميا على تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي، وقعت القيادة السودانية على اتفاقية نيفاشا بين الشمال والجنوب، من دون حضور مصر، التي كان من الممكن أن تشارك في رعايتها وتعمل على إقناع الطرفين القبول بالكونفيدرالية بعد الفترة الانتقالية. وهي الفكرة التي جاءت بها مصر بعد فوات الأوان وانتهت الاتفاقيات أو كادت بعد أن أعطى الجنوب حق تقرير المصير بالانفصال التام عن الشمال. وإن كانت قد اشترطت على الطرفين العمل على خلق وحدة جاذبة وهي الفرصة الثالثة التي أضاعتها مصر وكان بإمكانها حث الطرفين ومساعدتهما على الحفاظ على وحدة السودان والحفاظ من ثَمَّ على الأمن الإستراتيجي لمصر.
ورغم laquo;التحفظ المصري في السابق على حق تقرير المصير في جنوب السودان، فإن ذلك لم يمنعها من العمل من أجل التطبيق الكامل لاتفاق السلام الشامل بشأن الجنوب، وحل المشكلات التي تعترض تطبيقه. وقد قبلت مصر اتفاق السلام باعتباره الاتفاق الذي أوقف الحرب الأهلية... وقد بذلت مصر جهوداً كبيرة خلال الفترة التي أعقبت توقيع اتفاق السلام الشامل بشأن جنوب السودان من أجل تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع عبر علاقتها المتميزة بحكومة الجنوب والحركة الشعبية لتحرير السودان raquo;.
من الناحية التاريخية قدمت إثيوبيا في عهد الإمبراطور الراحل هيلاسيلاسي، والرئيس السابق منغستو هايلي مريام دعماً كبيراً وحاسماً، لحركات التمرد في جنوب السودان. فقد ساند نظام منغستو هايلي مريام الماركسي الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أنشأها جون جرنق في عام 1983، فاتحاً لها الأراضي الإثيوبية لتدريب متمردي الجيش الشعبي، ومانحاً إياها إذاعة ناطقة باسم الجيش الشعبي من داخل الأراضي الإثيوبية، الأمر الذي أغضب الحكومة السودانية في ذلك الوقت، ودفعها لتقديم الدعم والسند لمتمردي حركة التقراي السابقين ضد نظام منغستو. كما دعمت ثوار الجبهة الإريترية.
وترتبط إثيوبيا بعلاقات جيدة مع جنوب السودان وأيضاً مع الخرطوم. وهناك لجان مشتركة بين البلدين وهناك مشاريع لربط طرق بين البلدين والأهم من ذلك أن إثيوبيا تستورد النفط من السودان بأسعار تفضيلية. كما تطورت العلاقات بين أديس أبابا وجوبا وهناك خط طيران مباشر بين المدينتين.
لاشك أن انفصال جنوب السودان، ستكون له تأثيرات سلبية على الوضع الأمني داخل إثيوبيا، وعلى الأمن الإقليمي في منطقة حوض النيل، لأن هذا الانفصال سيغذي النعرات الانفصالية في إثيوبيا، لاسيما أن الدستور الإثيوبي ينص على حق القوميات في الانفصال.
وفضلاً عن ذلك، فإن إثيوبيا ارتبطت خلال سنوات عديدة بالحرب الأهلية في جنوب السودان أو تأثرت بها. وهي تواجه هي الأخرى صراعات داخلية منطلقاتها إثنية ودينية وقبلية. ففي إثيوبيا تصل نسبة المسلمين إلى 34% من مجموع السكان، وهي الآن، تريد الاستقرار في المنطقة، خاصة بسبب مشاكلها مع إريتريا، وبسبب وجود حركات انفصالية ومعارضة داخلية، وخوفا من تجدد دعوات الانفصال في إقليم أوغادين.
وستكون لكينيا مصلحة في تطوير علاقاتها الاقتصادية مع دولة جنوب السودان حديثة التأسيس لتنمية استثماراتها، إذ قامت بفتح مصارف في الجنوب، فضلاً عن خطوط الطيران الموجودة في جوبا، ولاسيما أن علاقة كينيا بجنوب السودان قديمة، فهي الدولة التي استضافت الحركة الشعبية بعد سقوط نظام (منغستوهايلا مريام) في إثيوبيا. فالجنوب يمثل لكينيا سوقا جاهزا يتلقى المواد المصنعة في دول الجوار. وفضلاً عن ذلك، تطمح كينيا في المستقبل إلى تسويق بترول الجنوب وتصديره عبر ميناء (ممبسا)، بدلاً من تصديره في الوقت الحاضر عبر الموانئ الموجودة في شمال السودان.
من الناحية الإستراتيجية تعتبر كينيا شريكة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب على الإرهاب الذي يصيب منطقة القرن الإفريقي، إذ حصلت كينيا من واشنطن على أكثر من 500 مليون دولار من المساعدات في العام 2007. وتعتبر كينيا جزءاً من البلدان المتوقع إيواؤها لمقرّ laquo;أفريكومraquo;، القيادة العسكريّة التي توشك الولايات المتحدة على تحضير تموضعها في القارة الإفريقية.
لهذه الأسباب مجتمعة، فإن الموقف الرسمي لكينيا، يدعم خيار قيام دولة في جنوب السودان اعتقاداً منها أن خيار الانفصال يخدم مصالحها، لكن كينيا بالمقابل تقف مع وحدة السودان لتعددها الإثني وتخوفها من انتقال عدوى الانفصال إلى بيتها الداخلي.
ويجمع المحللون أن أوغندا هي أكثر دولة إفريقية تدعم خيار انفصال جنوب السودان. فقد بات واضحا بل ومؤكدا بأنّ أوغندا تتصدر دول الجوار الإفريقي مع السودان التي تقود الحملة المحرضة على انفصال الجنوب حتى قبل إجراء الاستفتاء في يناير 2011.
وهذا الموقف الأوغندي المعادي له جذوره التاريخية، فقد شكلت أوغندا منذ إعلان حكم جعفر نميري أحكام الشريعة الإسلامية في عام 1983، وانهيار اتفاق أديس أبابا، الخلفية الإستراتيجية للحركة الشعبية لتحرير السودان التي بدأت تقاتل النظام في السودان، إذ تدفقت عليها المساعدات الإقليمية والدولية من خلال أوغندا.
وأدخلت القيادة الأوغندية في روع قيادة الحركة الشعبية أنّ قيام دولة في الجنوب ضرورة سياسية وقومية ودينية بالإضافة إلى ضرورة اقتصادية لأنّ أكثر من 75% من حقول النفط تقع في الجنوب مما يؤمّن لدولة الجنوب مصادر ثروة وعائدات تمكنها من إقامة بنى تحتية متطورة وضمان مستوى حياة لائق لسكان الجنوب بعد أن ظلوا ضحية التهميش والحرمان والفقر والتخلف والدونية. ويركز الخطاب الأوغندي الموجه إلى قيادات الجنوب على وجود ثروات أخرى مهمة وعلى الأخص الثروة المائية ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي تحتاج إلى استصلاح واستغلال.