يشهد العالم يوم السبت التاسع من يونيو الجاري حدثاً تاريخياً يتمثل في ولادة دولة جنوب السودان المستقلة. لم يكن طريق الجنوب للاستقلال سهلاً، ولكنه كان صعباً وقاسياً ومريراً. نادى الجنوبيون منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي بالمساواة مع الشماليين في الحقوق والتمثيل بالمؤسسات السودانية وببعض سلطات الحكم الذاتي في إدارة شئونهم، لكن الشمال تعاطى مع مطالب الجنوبيين بغطرسة مستخدماً القوة العسكرية لقمعهم. كانت النتيجة أن خاض الجنوب صراعاً عسكرياً طويلاً ومريراً مع الشمال دام خمسة عقود وأسفر عن قتل ما يزيد عن مليونين ونصف راحوا ضحية رفض الشماليين الاعتراف بحقوق الجنوبيين. انتهى الصراع المسلح عام 2005 باتفاقية سلام بين الطرفين نصت على إجراء استفتاء على مصير الجنوب. جرى تنظيم الاستفتاء في بداية العام الجاري، واختارت أغلبية ساحقة من الجنوبيين، اقتربت من 99%، الاستقلال عن الشمال.

درس في الإرادة جدير بالإشادة قدمه الجنوبيون الذين رفضوا أن يتم تهميشهم في الحياة السياسية السودانية وأن يصنفهم الشمال المختلف عرقياً ودينياً ولغوياً على أنهم أناس ينتمون إلى طبقة دنيا وأن يعاملهم على أنهم بلا حقوق لهم فارضاً عليهم قوانين وشرائع لا تتفق مع عاداتهم وتقاليدهم. ظهرت معالم خطة الشمال لقمع الجنوب مع استقلال السودان في مطلع عام 1956. وتقول موسوعة ويكيبيديا أنه تم استبعاد قادة الجنوب من مفاوضات الاستقلال وتم تهميشهم في الحياة السياسية بصفة عامة ولم تعكس نسبة تمثيلهم في المؤسسات السودانية أبداً نسبتهم السكانية. واستخدمت الحكومات التي سيطر عليها الشماليون أساليب قمعية في إدارة الجنوب، فقامت على سبيل المثال بفرض اللغة العربية وإغلاق المدارس المسيحية المنتشرة بالجنوب.

بعد نحو خمس عشرة سنة من الحرب الضارية توصل الجنوب والشمال عام 1972 إلى اتفاقية أديس أبابا التي توقف بمقتضاها الصراع المسلح. إلا أن سياسات متعجرفة للرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري أدت إلى اشتعال الحرب من جديد عام 1983. كانت محاولة نميري تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، من دون استثناء الجنوب غيرالمسلم، من أهم الأسباب التي أدت إلى تأزم الأمور بين الجانبين. وعلى جانب أخر كانت مطامع الشمال في الثروات الطبيعية الجنوبية سبباً مهماً في إنهاء فعالية اتفاقية أديس أبابا، فقد سعى الشمال منذ تم اكتشاف النفط بوفرة في الجنوب إلى فرض سيطرته على مناطق الحقول.

وعلى الرغم من أن الانفصال في عالم اليوم يعد إشارة إلى التخلف وعدم التسامح، إلا أنه في كثير من الأحيان لا تجد الأقليات مفراً من الانفصال بسبب تعنت الأغلبيات. ولعل هذا ينطبق على حالة جنوب السودان. لم تكن الحركة الشعبية لتحرير السودان الجنوبية التي قادت الصراع المسلح مع الشمال ذات توجهات انفصالية، بل كان زعيمها التاريخي الراحل جورج قرنق يعلن في كل مناسبة تمسك الحركة بوحدة السودان بشماله وجنوبه مع منح الجنوب حكم ذاتي وتمثيل مناسب في الحكومة الفيدرالية. لكن أسباب كثيرة من أهمها إصرار الشماليين على إهدار حقوق الجنوبيين الإنسانية ونهب ثرواتتهم والرغبة في تطبيق الشريعة الإسلامية في الجنوب لعبت دوراً هاماً في حسم قرار الجنوبيين بالانفصال.

يحمّل الكاتب السوداني عثمان ميرغني نظام عمر البشير مسئولية انفصال جنوب السودان. كتب ميرغني في مقال له نشرته جريدة quot;الشرق الأوسطquot; في السادس من يوليو الجاري أن قسماً من السودانيين أعرب عن شكوكه بأن إسلاميي النظام رأوا في الجنوب عائقاً أمام أي خطط لإعلان السودان جمهورية إسلامية، لذلك رموا بورقة تقرير المصير وفرضوها على الساحة السياسية ثم شنوا حرباً تحت راية الجهاد في الجنوب مما أعطاها طابعاً دينياً رسمياً. ويشير ميرغني إلى أن المزيج من الحرب والتلويح بتقرير المصير حفز الجنوب لتبني خيار الانفصال الذي تقنن رسمياً في اتفاقية السلام التي وقعت بين الشمال والجنوب عام 2005. ولعل ميرغني كان واقعياً صادقاً في تحليله لمسئولية الشمال عن انفصال الجنوب، فقد اكد عمر البشير بعد ظهور نتائج الاستفتاء على تقرير المصير بأن انفصال الجنوب سيؤكد على هوية الشمال الإسلامية.

كان الصراع من أجل الحرية في جنوب السودان طويلاً وامتد نحو خمسة عقود. عكس طول أمد الصراع عدم رغبة الأغلبية العربية في الشمال في تفهم حقوق الأقلية الأفريقية في الجنوب. ولعل هذا يقودنا إلى قضية مزمنة في منطقة الشرق الأوسط وهي قضية الحقوق المهضومة للأقليات العرقية والقومية والإثنية والدينية. لا تكاد توجد أقلية لا تتعرض للقمع الشرق الأوسط. الأكراد في تركيا وسوريا وإيران، وحتى وقت قريب العراق، لا يتمتعون بأية حقوق وغير قادرين على تحديد مصيرهم. المسيحيون في كل بلدان الشرق الأوسط وبخاصة في العراق ولبنان ومصر يتعرضون لضغوط مستمرة لإجبارهم على الرحيل والتنازل عن المكتسبات السياسية والاجتماعية التي حققوها على مدار قرون طويلة. الشيعة في الدول ذات الأغلبيات السنية يتعرضون لاضطهادات كبيرة ويتم في كثير من الحالات الطعن في ولائهم لأوطانهم. القبائل في إقليم دارفور تتعرض لأعمال إبادة تمارسها الحكومة السودانية. والأمازيغ في المغرب العربي يعاملون كدخلاء ينتمون إلى طبقة دنيا لا كمواطنين متساوين في الحقوق الواجبات.

بالنظر إلى مشاكل أقليات الشرق الأوسط في ضوء تعنت الحكومات التي تمثل الأغلبيات يتضح عمق القضية وغياب الحرية والعدالة والمساواة. وإذا كان الجنوبيون في السودان استطاعوا الحصول على حريتهم وحقوقهم عبر الاستقلال بعد صراع عسكري مرير مع الشمال، فإن معظم الأقليات الأخرى الموجودة بالمنطقة ربما يصعب عليها اتباع خطى الجنوبيين. فقد لعب الفروق التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية والعرقية مجتمعة ومنفردة أدواراً في توفير مناخ ملائم لانفصال الجنوب السوداني. أما بالنسبة لأقليات الشرق الأوسط الأخرى فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تجتمع كل هذه العوامل معاً لتسهيل انفصالها عن مجتمعاتها ودولها. الجنوبيون كانوا الاستثناء وليس القاعدة بين أقليات المنطقة في ما يتعلق بالحصول على الحرية بالانفصال. وربما يثير هذا تساؤلاً بشأن مستقبل أقليات الشرق الأوسط وكيفية إيجاد حلول لقضاياهم إذا ما استبعدنا الانفصال.

الحل السحري لقضايا الأقليات هو الالتزام الكامل والسليم بمباديء الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان. هذا هو الحل الذي تطبقه الدول المتقدمة متعددة القوميات مثل سويسرا وبلجيكا وكندا، وهو الحل الذي يضمن للأغلبيات والأقليات حقوقها وينظم واجباتها. الديمقراطية ليست حكم الأغلبية للأقلية كما يظن الكثيرون من المتطلعين للسلطة في المرحلة ما بعد الثورات في بلدان الشرق الأوسط، وهي ليست السلّم الذي يجب تسلقه للوصول إلى الحكم، ولكن الديمقراطية هي حكم القانون المدني للأغلبية والأقلية، والعدل، وتداول السلطة، وعدم الادعاء باحتكار الحقيقة، وعدم التمييز بين إنسان وأخر على أساس العنصر أو العرق أو الجنس أو الدين. ولو كان حكام الخرطوم لجأوا للديمقراطية لما تقسّم السودان. وليت حكومات أغلبيات الدول الشرق أوسطية تتعلم من درس انفصال جنوب السودان.

[email protected]