أخيراً وبعد طول انتظار صدر القرار الاتهامي في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري التي جرى تنفيذها قبل ست سنوات. جرى قبل يومين تسليم النائب العام اللبناني سعيد ميرزا نسخة من القرار للشروع في تنفيذه بناءً على الاتفاقية التي وقعها لبنان بشان تشكيل ومهام المحكمة الدولية. لم تكن مذكرات التوقيف التي صدرت بحق عدد من رجال حزب الله، التي جاءت بمقتضى القرار الاتهامي مفاجئة، فقد كشفت شبكة الأخبار الكندية سي بي سي في تقرير لها أذاعته في نهاية العام الماضي عن تفاصيل التحقيقات التي أجرتها المحكمة والتي أشارت بوضوح إلى ضلوع بعض من رجال حزب الله في الجريمة. اعتمدت نتائج التحقيقات على أدلة دامغة حصلت عليها المحكمة الدولية من متابعة دقيقة لشبكات اتصالات خلوية خاصة بحزب الله. وقد التقت نتائج تحقيقات المحكمة مع نتائج توصلت إليها تحقيقات مشابهة قام بها النقيب وسام عيد الضابط بقوات الأمن الداخلي اللبناني الذي تم اغتياله قبل ثلاثة أعوام بعد كشفه صلة الأرقام الهاتفية التي استخدمها قتلة رفيق الحريري بحزب الله.

ردود الأفعال اللبنانية التي تلت صدور القرار التهامي عكست حالة الانقسام التي تسود بين اللبنانيين. تيار المستقبل الذي يقوده سعد الحريري، الطرف الأول في القضية ويمثل الجانب المجني عليه، رحب بالقرار واعتبره خطوة في الاتجاه الصحيح لتحقيق العدالة، ورأى في الوقت ذاته أنه من الضروري على كل الأطراف المعنية وبخاصة حكومة نجيب ميقاتي الالتزام بالتعهد اللبناني بالتعاون مع المحكمة الدولية. لكن حزب الله، الطرف الأخر في القضية ويمثل الجانب المتهم، رفض القرار الاتهامي. وشن حسن نصرالله زعيم الحزب بالأمس هجوماً ضارياً على المحكمة الدولية واتهمها بتوجيه التحقيقات نحو الحزب عمداً ولأهداف سياسية تتعلق بما يزعم أنه مخطط أمريكي صهيوني يستهدف النيل من الحزب والدفع نحو فتنة في لبنان. ولام نصرالله المحكمة لعدم توجيهها دفة التحقيقات نحو إسرائيل..

حاول حزب الله مراراً وتكراراً إجهاض عمل المحكمة الدولية. سعى الحزب لإنكار تهمة اشتراك عدد من رجاله في تنفيذ جريمة اغتيال رفيق الحريري. عمل الحزب مع حلفائه في تيار الثامن من آذار للعب على وتر الشهود الزور بغرض تعطيل التحقيقات. ثم قام الحزب بإلصاق تهمة الاغتيال بإسرائيل بغرض إبعاد أصابع الاتهام عنه وإقناع الرأي العام بمسئولية الدولة العبرية عن الجريمة. ولكن الحزب فشل طوال السنوات الخمس الماضية في محاولات تعطيل عمل المحكمة بسبب إصرار قوى الرابع عشر من آذار التي قادت الحكومة عندئذ على الكشف عن حقيقة مغتالي رفيق الحريري. وقد لعبت مؤخراً مسألة اهتمام سعد الحريري بتفعيل دور المحكمة الدولية والالتزام بقراراتها دوراً كبيراً في الانقلاب الذي قامت به ضد حكومته القوى المتحالفة مع حزب الله، وهو ما أفضى إلى رحيل حكومة الرابع عشر من آذار ومجيء حكومة الثامن من آذار التي يترأسها نجيب ميقاتي.

لا يؤكد إعلان حسن نصرالله رفضه القرار الاتهامي وامتناعه عن تسليم المتهمين على قوة وجبروت حزب الله فحسب، ولكنه يؤكد أيضاً على ضعف الدولة اللبنانبة وعدم قدرتها على مواجهة وإيقاف الحزب. يدفع لبنان اليوم ثمن الخطأ الذي ارتكبه الساسة اللبنانيون بحق أنفسهم وبحق لبنان في السنوات العشرين الماضية حين سمحوا لحزب الله بالبقاء والاستفحال في بلادهم تحت غطاء المقاومة. لم يكن حزب الله أبداً وسيلة مقاومة ولكنه كان أداة لتنفيذ الأجندتين الإيرانية والسورية الهادفتين لخلق حالة من الفوضى في الشرق الأوسط إضافة إلى تخريب لبنان وتكريس انقساماته. ولعل العمليات العسكرية باهظة التكاليف التي أُجبر لبنان على خوضها في العقدين الماضيين بسبب رعونة قادة حزب الله كانت فرصة ذهبية للسياسيين اللبنانيين لمعرفة حقيقة الحزب، ولكن الحكومات اللبنانية المتتابعة أغمضت عيونها لسبب أو لأخر، للأسف، عن مسألة شرعية الوجود المسلح للحزب. وكانت النتيجة أن حسن نصرالله يخرج اليوم لسانه للبنان واللبنانيين متحدياً أن تقدر الحكومة على إلقاء القبض على من صدرت بحقهم مذكرات التوقيف.

من المؤكد أن تنفيذ القرار الاتهامي أمر مهم للغاية للحفاظ على هيبة الدولة الللبنانية. وإذا كان بعض الساسة اللبنانيين من عينة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي والزعيم الدرزي وليد جنبلاط ورئيس التيار الوطني الحر ميشال عون يبدون تهاوناً في تطبيق القرار بحجة الحفاظ على الوحدة اللبنانية، فإن رؤية كهذه ستكتب بداية النهاية لهيبة الدولة اللبنانية. سيكون التهاون في تطبيق القرار نقطة فاصلة في تاريخ لبنان ولن يحقق أبداً الوحدة والاستقرار والسلام كما يظن أولئك، لكنه قد يقود لبنان إلى مرحلة جديدة من الفوضى التي لا يعلم أحد مداها. سيضع التهاون في توقيف المتهمين لبنان إلى الأبد في أسر حزب الله الذي سيتحول من مجرد فصيل إلى قوة حاكمة فعلية في لبنان تسقط أمامها شرعية السلطات اللبنانية الرسمية. القرار الاتهامي ليس مسألة محصورة بين نجيب ميقاتي وحزب الله كما قال ميشال عون، القرار الاتهامي قضية لبنانية ودولية تخص كل من يهتم بتقديم المجرمين الذين ارتكبوا جريمة اغتيال رفيق الحريري للعدالة وكل من يهمه أن يكون لبنان مستقلاً وذا سيادة حقيقية. الامر جد وخطير، وحتى يتم تجنب الفوضى يتوجب توافق الفرقاء اللبنانيين على عزل حزب الله المناهض للبنان.

[email protected]