(4 -4)

منذ ان نجح التيار الديني المتطرف بقيادة الخميني في إستلام السلطة في إيران و إقصاء او إبعاد او تصفية الآخرين، عمل بکل جهده من أجل إرساء دعائم الدولة الدينية و جعلها أمرا واقعا في إيران، تمهيدا لفرضها على المنطقة و العالم من خلال سياسة ماسمي بquot;تصدير الثورةquot;.

ولئن کان الشعب الايراني وهو يخرج من غمار نظام دکتاتوري سلطوي ملکي شمولي، وکان لايزال يعاني من سطوة التأثيرات السلبية لذلك النظام، فإنه لم يعلم في انه و بقبوله بالخميني، لم يفعل شيئا سوى تغيير التاج الشاهنشاهي الى عمامة مع فارق مهم و خطير وهو منح النظام الدکتاتوري القائم صفة و بعدا مقدسا وهو ما يعني إسباغ الشرعية على سياسة قمع و تصفية المعارضين او المخالفين للنظام، إذ أن الخارج على النظام و رجال الدين المهيمنين عليه يعني بالضرورة الخروج على الله تعالى، کما ان تهديد النظام يعني تهديد دولة الاسلام، وبسبب من ذلك، تمکن النظام تصفية معارضيه بقسوة متناهية و بدم بارد أمام أنظار العالم کله، وقد کان سيف النظام الديني البتار أشد مايکون على المثقفين و المفکرين و دعاة الحرية و حقوق الانسان بشکل عام و حقوق المرأة بشکل خاص، بل وان النظام الذي إتبع مختلف السبل و الوسائل لتصفية مناوئيه و خصومه من أنصار الحرية و الديمقراطية في إيران، لم يکتف بمن يعاديه داخل اسوار البلاد التي حولها الى سجن کبير، وانما توجه أيضا الى الخارج و طفق ينفذ عمليات إغتيال إرهابية وحشية ضد زعماء سياسيين و قادة أحزاب و مفکرين و حتى رجال دين من اولئك الذين يرفضون نظرية ولاية الفقيه و لايعتدون بها، وعندما مات الخميني عام 1989، وجد التيار الديني المتطرف نفسه في ورطة کبيرة، إذ کان يعلم يقينا بأن النظام کله قد بات في خطر لو لم يتکفله رجل فاهم و مستوعب للنظرية الدينية الطائفية الاستبداديةquot;ولاية الفقيهquot;، ومن هنا، فقد بذل إتجاه في التيار الديني بزعامة هاشمي رفسنجاني وقتئذ من أجل دفع حليفه علي الخامنئي الى منصب الولي الفقيه، وقد کان ذلك بمثابة نصر quot;جديدquot; ولکن quot;حذرquot; للتيار الديني في صراعه من أجل البقاء في السلطة و التشبث بها، وقد کانت مرحلة مابعد الخميني، تتميز بجنوحها نحو عدم الاستقرار و شئ من الضبابية فيما يتعلق بالعديد من الشعارات و الاهداف الخاصة بالنظام، خصوصا إتجاه الولايات المتحدة الامريکية و اسرائيل و دول معتدلة في المنطقة، إذ سعى النظام الديني في هذه المرحلة للدفاع عن نفسه بمختلف السبل و الوسائل و إبعاد أخطار تهديد وجوده بکل إمکانياته، وبعدما کان الخميني يقول(تقطع اليد التي تمتد من إيران لمصافحة أمريکاquot;، فقد بدأ خليفته الخامنئي نهجا جديدا کان من أهم ملامحه الاتصالات السرية المکثفة مع واشنطن وکذلك العلاقات التجارية السرية المفرطة مع اسرائيل، ناهيك عن جنوحهم نحو التهدئة و المساومة مع دول عربية معتدلة و على رأسها غريمه و خصمه اللدود المملکة العربية السعودية، أما على الصعيد الداخلي، فقد کانت الصورة بالغة القتامة ولم يعد الوضع السياسي في مختلف ارجاء دولة ولاية الفقيه على حالها و طفق المشهد يتخذ مسارات حادة غير مألوفة و مسبوقة من قبل، إذ بدأ الشعب الايراني وبعد مرور أکثر من ثلاثة عقود من حکم دکتاتوري شمولي متشدد، يعلن ليس عن تململه فقط من النظام القائم وانما يسعى و بجدية بالغة لإزاحته و تغييره جذريا وإنهاء التسلط الديني المفرط على الشؤون المختلفة له و إعادة رجال الدين الى أماکنهم الحقيقية التي يجب ان يتواجدوا فيها و يؤدوا من خلالها رسالتهم في الحياة وهي المساجد، ولاسيما وان رجال الدين وعلى رأسهم الولي الفقيه، قد فشلوا فشلا ذريعا في تقديم النموذج و البديل الحضاري من خلال دولة ولاية الفقيه التي يبدو أنها قد لبثت أخيرا متقوقعة في إطار(طائفي بوليسي)يجنح الى جعل العنف وسيلته و منطقه الوحيد لحل الازمات و الاشکالات القائمة بينه و بين الشعب الايراني من جهة، وبينه و بين العالم أجمع من جهة أخرى، بل وان موقفه المشبوه و البعيد کل البعد عن مبادئ و رکائز الدين الاسلامي نفسه من النظام السوري، هي أبلغ عبارة و أفضل تعريف عن ماهية و جوهر هذا النظام و أي نظام آخر يهدف الى أدلجة الدين و جعله وسيلة للوصول الى غاياته، کما وان موقفه من الاوضاع في البحرين والذي يکاد أن يکون متغيرا عن موقفه تجاه النظام السوري بزاوية مقدارها 180 درجة، تؤکد الماهية و المعدن الطائفي الواضح لهذا النظام و عدم تمکن قادته من تجاوز الحالة الطائفية الى الفضاء الرحب للإسلام، وان موقفهم الانتقائي هذا و کيلهم للأمور في المنطقة العربية بمکيالين، يعطينا الحق تماما في أن لانفرق بينه و بين السياستين الامريکية و الاسرائيلية تجاه المنطقة و العالم و التي يتهمها النظام الايراني نفسه بالازدواجية و الکيل بمکيالين، والواقع، أن السعي لطرح الدين بديلا للنظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الفکري و في إطار دولة، هو سعي غير موفق و لن ينال حظا اوفر من الحالة الطالبانية في أفغانستان او نظام ولاية الفقيه في إيران واللذين وصلا الى طريق مسدود و وجدا نفسيهما أمام خيارين لاثالث لهما، وهما إما استخدام العنف المفرط لإدارة البلاد او الاستسلام للأمر الواقع و ترك الامر لمن يعنيه و يتمکن من تمشيته على أفضل مايکون.

ان الازمة السياسية الفکرية الاجتماعية الاقتصادية الخانقة التي يعيشها النظام الايراني و وصوله الى طريق مسدود تماما، يعکس في حقيقة الامر عجز أطروحة ولاية الفقيه في إستيعاب و تسيير عجلة الادارة و الحياة ضمن إطار الدولة، ومثلما وصلت قبلها دولة طالبان الافغانية الى طريق مسدود لم ينفع معها سوى السقوط و انتهاء سطوتها کدولة، فإن الامرين لم يأتيا عبثا او من دون طائل، ذلك ان شعوب العالم الاسلامي بصورة عامة، و شعوب البلدان العربية بصورة خاصة، قد تأکد لها بفطرتها و عفويتها عدم جدوى و أهمية اقامة الدولة الدينية، وقد تجلى ذلك بأوضح صورة في الانتفاضات و الثورات التي إجتاحت دول عربية والتي تراجعت و تحددت خلالها دور المنظمات و الاحزاب و التيارات الدينية بصورة ملفتة للنظر، مما أعطى إنطباعا کبيرا للعالم أجمع و لآخر دولة دينية يشهدها العالم في الالفية الثالثة بعد الميلاد، بأن عصر أفول الدولة الدينية و نهايتها قد أذنت على أيدي الشعوب نفسها صاحبة القرار الاول و الاخير بهذا الخصوص، وان دولة ولاية الفقيه نفسها متيقنة تماما من أن رمسها جاهز منذ أعوام عديدة ولم يبق بينها و بين وضعها في ذلك الرمس إلا زمن تجزم العديد من الدوائر و الاوساط السياسية من أنه ليس ببعيد.