جميع الحكماء الذين ظهروا قبل ولادة الأنبياء والمرسلين بخمسة قرون وأكثر، أمثال زرادشت وبوذا وكومفوشيوس، ثم جميعُ الأديان السماوية التي جاءت بعدهم، ثم كل علوم القرون المتأخرة القائمة على التحليل النفسي والبحث العلمي المتخصص والمتقدم والمتطور، تُجمع على حقيقة واحدة وهي أن الفرد إبن بيئته.
فالطفل يولد صفحة بيضاء ناصعة خالية من أي كتابة. ثم يبدأ الأبـَـوان والعائلة والبيئة في تشكيل هويته وأخلاقه وديانته.
وفي ثقافتنا الشعبية يقال (من شب على شيء شاب عليه)، ويقال أيضا (العلم في الصغر كالنقش في الحجر)، و(إبن البط عوام)، و(تلميذ الأستاذ أستاذ ونص).
وبناء عليه فإن المتفائلين العرب والأجانب الذين توقعوا أن يزف لهم بشار الأسد في خطابه المنتظر بشائر خير، من قبيل وقف القتل والذبح والتهجير والتضليل والتلفيق والكذب والنفاق، وإلغاء احتكار البعث للسلطة، وتشكيل مجلس إنقاذ محايد يشرف على انتخابات نزيهة وشفافة، والعفو عن جميع السجناء السياسيين، وإطلاق الحريات العامة جميعها، واعتماد التعددية، وغيرها من الأنباء السعيدة التي يموت السوريون من أربعة شهور بالعشرات من أجل انتزاعها من غاصبيها، كانوا يعومون على شبر ماء.
فهم إما أبرياء تجاوزت فيهم السذاجة حدودها المحتملة، غلبَهم أصلهُم الطيب فتمنوْا أن يتحول الشيطان إلى ملاك، فجأة، وأن ينتصر الخير على الشر برمشة عين في نفس ٍ ليس فيها سوى شر، ولا مكان فيها لفضيلة، وإما منافقون تظاهروا بالرغبة في صلاح سوريا على يد رئيس يعلمون أنه هو الذي خربها، مع سبق الإصرار والترصد، ويعرفون أصله وفصله، ويدرون بما انكتب على صفحات طفولته الأولى وهو في أحضان والد ٍ لم يُتقن في حياته كلها سوى الانقلاب على الرفاق، والغدر بالأقربين والأبعدين، وتغييب المعارضين، وتذويب أيدي الصحفيين والكتاب بالأسيد، وهدم منازل على ساكنيها، وتصدير المصائب إلى الإخوة والجيران، وترويع الأمنين في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، وتاريخُه حافل، ولا يحتاج إلى بيان.
هم يعلمون أو لا يعلمون أن بشار الأسد لا يستطيع أن يكون إلا بشار الأسد نفسَه، مهما قيل ومهما يقال.
رفيقه معمر القذافي أطلق على الثوار الليبيين صفة الجرذان، وهو اخترع لهم صفة الجراثيم. ومعمر صمم على إبادة المعارضين الليبيين، بيت بيت وزنقة زنقة، وهو عشم إبليس بالجنة. وعلي عبد الله صالح وعد اليمنيينُ، كاذبا، بالتخلي عن الرئاسة، ولكن بعد اكتمال مدة رئاسته، وانتهى به المطاف على نقالة.
أما بشار الأسد فخالفهما كثيرا، وتفوق عليهما في الخبث والسادية والدموية وقلة الذوق. فهو أعلن صراحة ودون مواربة أن عليه أن يتأقلم مع الوضع القائم الحالي في سوريا. أي أنه يريد أن يجعل سفك الدماء أمرا عاديا طبيعيا يتعود عليه السوريون، ويستمر هو في مماطلة التظاهرات الجماهيرية اليومية بالمداهمة والمداهنة معا، إلى أن تمل الجماهير ويتعب قادة العالم عن ضغوطهم ويسكتون في نهاية المطاف.
والسبب أنه لا يستطيع أن يتراجع إلى الوراء قيد أنملة. فإلغاء هيمنة حزب البعث وتنشكيل حكومة مستقلة انتقالية وإجراء انتخابات نزيهة يعني أنه يضع نفسه وشقيقه وباقي أفراد أسرته، وكبار قادة حزبه ومخابراته وجيشه، تحت تصرف القضاء ليأخذ الشعب السوري حقه من الفاسدين والقتلة والمخربين، وقد يصبح هو أول المطلوبين، وله في زميله المخلوع حسني مبارك أسوة غير حسنة. إنه معذور. فلا هو قادر على التنازل عن شيء من جبروته، لأن في ذلك سقوطه، ولا المعارضة قادرة على تخفيف ثورتها، لأنها تعرف أن ذلك يعني أنها ستكون إما في المقابر أو المنافي.
والعتب هنا ليس كلـُه على بشار، ولا على البعثيين، ولا على مقاتلي دولة الولي الفقيه ومجاهدي حسن نصر الله الذين يقاتلون في سوريا لنصرة القاتل على المقتولين والسارق على المسروقين والظالم على المظلومين. بل العتب كل العتب على أؤلئك الحكام المنافقين الذين يراوحون ويماطلون ويتلاعبون بالألفاظ ويحثون جميع الأطراف السورية على ضبط النفس والصلاة على محمد.
وأمس هبوا، بحمية وشهامة وإباء، لإدانة معمر القذافي من أول ساعات اندلاع التظاهرات ضده، وسارعوا إلى الاجتماع، وطلبوا من الأمم المتحدة التدخل العسكري العاجل لحماية المدنيين الليبيين. حدث هذا حتىقبل أن يطلق معمر القذافي أولى هجماته على المتظاهرين في بنغازي، وقبل أن تخرج دباباته وطائراته لقصف منازل المواطنين. وعلى الفور وضع هؤلاء الحكام المنافقون أموال (نفطهم) الحرام تحت تصرف الطائرات الفرنسية والبريطانية والأمريكية لتهديم ما يمكن تهديمه من جسور، وتخريب ما يمكن تخريبه من مطارات ومؤسسات وموانيء، واشتروا، مقدما وبالنقد الفوري، أولى شحنات النفط الليبي من الثوار، حتى قبل الانتصار.
لكنهم بلعوا أصواتهم، وسكتوا أربعة شهور دامية طويلة على ذبح المواطنين السوريين العُزل بدبابات رفيقهم وحليفهم (فخامة) الرئيس بشار، رغم أنهم يبغضونه، ويبغضون غروره وصلافته و(شبيحته) وانتهازيته، وابتزازه لأموالهم بورقة إيران وحزب الله وإسرائيل، وبأكذوبة الصمود والتصدي.
وبعد انتظار طويل، وبعد مئات النداءات المتلاحقة لحثه على القيام ببعض الإصلاحات، حتى وإن كانت هامشية وغير جادة ولا حقيقية ومن باب رفع العتب وامتصاص غضب الجماهير، خرج عليهم رفيقهم بشار بخطابه الموعود، ويا ليته ما خرج، فخيب آمالهم، وسَوَّد وجوههم، وأحرجهم أمام شعوبهم، ولم يرد على نصائحهم، بل أطلق وعيدا جديدا بالويل وبالثبور، وإصرارا على المواجهة، وإلى ما لا نهاية. فلم يترك لهم من خيار سوى تهديده بعقوبات جديدة، وتشديد عقوبات سابقة، وهم يعلمون أن العقوبات لم تهز شعرة واحدة في رأس صدام حسين، على قسوتها وسعتها وعمقها.
والعالم كله يتذر كيف تفتق الذهن البعثي (الإبليسي) في العراق عن فنون احتيالية مبتكرة جعل بها العقوبات منجم ذهب إضافيا متدفقا يمول مخابراته وحرسه الجمهوري و(فدائييه)، ويشتري به المزيد من ذمم المنظمات والمؤسسات والشركات والحكومات والزعامات. و(فضائح كيوبونات النفط مقابل الغذاء ما زالت تزكم الأنوف). بل إن صدام حسين َحوَّل عقوبات الأمم المتحدة إلى وسيلة فاعلة لتجويع.. وإضعاف.. وإذلال.. وتركيع العراقيين في الداخل، وتهجير ملايين منهم إلى بقاع الدنيا الواسعة بحثا عن ملاذ يقيها غائلة الجوع.
ثم صار من أهم زبائن نفطه المُهرب أولاد قادة نظام الولي الفقيه ونظام حافظ الأسد (ومن بعده بشار). فقد أصبحوا من أهم المهربين للسلاح والذخيرة إلى الديكتاتور، وأوائل المشاركين في (لهط) الملايين من كيوبونات النفط مقابل الغذاء، بعد أن كانوا أشد أعدائه، وأكثر الداعين إلى رحيله، وأول المبادرين إلى تشكيل مليشيات مسلحة لقتل ضباطه وجنوده في جنوب العراق وشماله. ولله في خلقه شؤون.
فكيف يتوقع حكام آخر زمن أن يكون بشار الأسد أقل خبثا وشطارة من صدام؟ وكيف تخيلوا أن تكون عقوبات أمريكا والاتحاد الأوربي على سوريا أكثر فاعلية وتأثيرا من عقوبات العالم كله على صدام؟ هذا إذا تمكن مجلس الأمن الدولي اليوم من إقناع روسيا والصين بالتوقف عن محاماة الشيطان والقبول بعقوبات دولية تؤذي الشعب السوري وتكون بردا وسلاما على بشار العزيز.
الشيء الجديد والمهم في كل هذه الملهاة هو إصرار الجماهير السورية في مدن سوريا وقراها كلها، علوية وسنية، عربية وكردية، إسلامية وعلمانية، دون تمييز أو استثناء، على مواصلة الصمود والمطالبة بسقوط النظام ورحيل الديكتاتور، كلَ يوم جمعة، ثم كلَ يوم، ثم كلَ نهار وكل ليل، مهما كانت التضحيات ومهما كانت الظروف. وهذا هو المأزق الحقيقي الذي وجد العالم نفسه فيه.
والآن، وبعد كل الدماء الزكية التي سالت على أيدي (شبيحة) البعثيين، لا تبشر معطيات الواقع السوري المحلي والإقليمي والدولي إلا بمخرج واحد من الدائرة المغلقة، وليس هناك سواه، وهو رحيل بشار، مهما طال الانتظار، ومهما غلا الثمن.
الشيء الذي لم يفطن إليه بعد أيٌ من المحللين والمعلقين السوريين واللبنانيين والعراقيين المنتفعين من النظام، والعائشين على خيراته وبركاته وعطاياه، هو أن كثيرين آخرين سيرحلون مع فخامة الرئيس. قادة أحزاب ووزراء ونواب وكتاب وفنانون سوريون ولبنانيون وعرب آخرون منافقون خانوا ضمائرهم، ووقفوا مع القاتل وهم يرون دماء أشقائهم تملأ الشوراع والساحات والميادين. يا حيف.
- آخر تحديث :
التعليقات