من تابع مثلي نتائج الانتخابات التركية التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية للمرة الثالثة بجدارة يفرح لديمقراطية إخوتنا الأتراك، ويحزن كثيرا لديمقراطيتنا العراقية المغشوشة حين يقارن بين نتائجهم ونتائجنا، زعمائهم وزعمائنا، إسلامهم وإسلامنا، علمانييهم وعلمانيينا، مع الأسف الشديد.

عندهم بلغ الإقبال على الاقتراع 86 بالمئة، من خمسين مليون مواطن، صوت نصفهم لرجب طيب أردغان، بالتمام والكمال، بمختلف انتماءاتهم القومية والدينية والطائفية، وفي مناطق البلاد جميعها، دون تمييز، وليس في مدينة دون مدينة، ولا قرية دون أخرى.

أما عندنا فلم تتجاوز 30 بالمئة في بعض المناطق، وصوت للمالكي 600 ألف فقط من 30 مليونا، ولعلاوي أقل. هذا إذا لم نوافق على الاتهامات المتبادلة بينهما بالتزوير والتلاعب ببعض المناطق، والاحتيال على الناخبين في مناطق أخرى.

في تركيا جرت الانتخابات بصناديق اقتراع بلاستيكية شفافة يستطيع الناخب أن يرى من خلالها كل شيء داخلها، ولم تُسجل عمليات تلاعب ولا تزوير، ولم يشترِ أردوغان أصوات ناخبيه بمال ولا بقوة مليشيا ولا فتاوى مرجعية، ولا هم يحزنون، بل جاءته مكافأةً له على سياسة داخلية متحضرة تكللت بانتعاش اقتصادي غير مسبوق، وسياسة خارجية عاقلة واقعية متحضرة فتحت لصناعة تركيا وتجارتها، وحتى لموسيقاها ومسلسلاتها، أبواب الدول والشعوب المجاورة والبعيدة، بلا حدود.

وقبل هذا وذاك فالفائز في انتخابات تركيا حزبٌ إسلامي لا يُشبه أحزابنا الإسلامية المنافقة التي تزعم أنها ديمقراطية، وهي منها بُراء. معمم سياسي يصلي ويصوم ويحج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكن يقامر ويخمر ويرتشي ويأمر بالقتل والاختطاف والسرقة والاختلاس واجتثاث المعارضين.

خمسة وثمانون بالمئة من الذين صوتوا لأردوغان كانوا متعلمين، يقرأون ويكتبون، ملأوا استماراتهم بأنفسهم، بحرية واقتناع. وعندنا أغلب الذين صوتوا لـ (زعمائنا) كانوا إما أميين ساعدهم ببعبئة استماراتهم مسلحون من المليشيات التي كانت (تحرس) الصناديق، أو جهلة تسوقهم العمامة أو العصا، أو فقراء تسوسهم حفنة ٌ من التومان أو الريال أو الدولار.
حزب العدالة والتنمية لم يعمد إلى قمع القوى المعارضة التركية بالهراوات والعصي والسكاكين، و(بالمجاهدين) في فصائل الإسناد، ولم يفرض الاجتثاث على خصومه المنافسين، ولم يفرض قناعاته الدينية والطائفية بالقوة على مواطنيه، كما فعلت أحزاب الإسلام السياسي العراقية الحاكمة، في بغداد وبعض محافظات الجنوب. بل ظلت الحرية الشخصية في تركيا مُصانة، ًومقدسة، وكلُ شيء بإلاقناع وبالحوار.

ولعل أهم إنجازات حزب العدالة والتنمية أنه استطاع، بحنكة وحكمة، أن يجعل علمانية المجتمع التركي المتوارثة معتدلة ودون تطرف. بعبار أخرى، قام بتهذيبها، جاعلا منها علمانية منسجمة مع الإسلام، ثم جعل الإسلام متصالحا مع العلمانية.

ولعل أكبر منافعه على الإطلاق أنه أعاد الجيش التركي إلى ثكناته، تاركا السياسة للسياسيين، والعسكر للعسكريين. لا خلط بين هذا ولا ذاك.
أما عندنا فلابد من الاعتراف بأن انتخاباتنا الأخيرة فضحت هشاشة وضعنا السياسي وتشرذمَه الفاضح الكبير، وأكدت الحاجة إلى قيادة سياسية شعبية تستقطب الملايين من الناخبين، بأفكارها ومبادئها ونزاهة قادتها وعدالتهم ووطنيتهم الصافية المُبرئة من الحزبية والشللية والطائفية والعنصرية والمصلحية الشخصية الضيقة.
في انتخاباتنا الأخيرة لم يفرق العراقيون كثيرا بين المالكي وعلاوي أو غيرهما من المتسابقين.

نوري المالكي لم يضع حدا للفساد، بل تستر على بعض اللصوص من وزرائه ومستشاريه ومعاونيه، ولم يخرج من طائفيته، ولم يستطع أن ينسى كونه رئيسا لحزب الدعوة وليس زعيما للعراقيين.

وعلاوي لم يثبت، بسلوكه وسلوك وزرائه وأعوانه أيام رئاسته القصيرة للوزارة، أنه أردوغان. ففي عهده القصير شهدنا أول عملية تهريب لمليارات الدنانير العراقية الجديدة إلى لبنان قام بها وزير داخليته وصهره نوري البدران. وسمعنا بفضيحة وزير دفاعه حازم الشعلان المليارية ومساعده زياد القطان. وعرفنا بقصة وزير مواصلاته لؤي حاتم العرس. وتابعنا حكايات وزيرة زراعته سوسن الشريفي. وضحكنا على تجليات وزير كهربائه أيهم السامرائي. دون أن يعلن موقفه الواضح الصريح من أي منها، لا في زمن رئاسته للوزارة ولا بعدها، مع الأسف الشديد.

عندهم، حقق حزب العدالة والتنمية زيادة مهمة في عدد الأصوات عما حققه في الدورتين السابقتين، 2002 و 2007، فكانت أول مرة يتمكن فيها حزب، في تركيا وفي المنطقة، من الفوز بفترة حكم ثالثة على التوالي، بجدارة.
وعندنا، بالحساب الموضوعي الدقيق لنتائج الانتخابات الأخيرة نكتشف أن الجميع تراجع وفقد شيئا مهما من عنفوانه ومكاسبه السابقة. فائتلاف الحكيم خسر كثيرا من مواقعه التقليدية في مكامن قوته أمام حزب الدعوة وهداياه المُجزية. والمالكي، هو الآخر، خسر كثيرا من امتداده السني السابق، وتوسع في جنوبه الشيعي فقط، على حساب حلفائه في الائتلاف الوطني.
وانكسر علاوي في أغلب المحافظات الجنوبية، وحوصر إلى حد كبير، حتى في الحلة مسقط رأسه الحصين، وتقوقع في حدود مناطق حلفائه السنة، في الموصل والرمادي وتكريت.
والجبهة الكردستانية بدورها لم تنجُ من الخسارة، فقد عانت، هي الأخرى، من أفول بريقها السابق في عقر دارها. ولعل أبرز مظاهر ذلك حصولُ معارضيها على جزء غير قليل من أصوات جماهيرها في أربيل والسليمانية معا.

شيء آخر. إن انتصار حزب العدالة والتنمية بهذه الصورة هو انتصار مؤكد للعقلانية وللدولة المدنية المسالمة في المنطقة.
وفوق كل ذلك، فهو انتصار للإسلام السياسي المتنور الذي يحترم العقل والمنطق، ويفهم لغة العصر وثقافته ومنطقه وقواعد اللعب فيه، ويرفض احتكار السلطة بالمتاجرة بالمظلومية الطائفية، أو بفرق الخطف والقتل على الهوية، أو بالغش والخداع والفساد وتزوير الشهادات.

هنيئا لأشقائنا الأتراك، وهنيئا لقوى الحرية والديمقراطية والعدالة والسلام في المنطقة والعالم، وهنيئا لبيروت وبغداد والشام وديار بكر واسطنبول ورام الله ونابلس والضفة الغربية والقدس والبوسنة، على رأي الطيب رجب طيب أردوغان.