محاولة للفهم

بالـتأكيد هناك من يستهجن استضافة المملكة الرئيس اليمني للعلاج من اصاباته التي لحقت به أثناء محاولة الاغتيال، وسيرى هؤلاء أن المملكة تقف مع الرؤساء المتشبثين بالسلطة ضد شعوبهم المتطلعة للتغيير والحرية. هذا الموقف ظهر بعد استقبال المملكة الرئيس التونسي المخلوع ويظهر من جديد بعد وصول علي عبدالله صالح للرياض حيث يحاول البعض الترويج له كدليل على أن المملكة تقود ثورة مضادة ضد ثورات الربيع العربي.

ولكن حين نتجاوز القراءة السريعة العاطفية والمتأثرة بالأحداث في الشارع سنجد أن القرار السعودي لاستضافة الرئيسين رغم الرفض الشعبي لهما في بلديهما كان سبباً في احتواء ازمة حادة كادت تعصف بمسيرات الاحتجاج السلمي وتحول الربيع العربي إلى صيف ساخن كما نشهد اليوم في ليبيا وسوريا حيث يستمر سقوط الأبرياء في مواجهة شرسة هدفها الاول والاخير السلطة تحت أي شعار كان.

المملكة أوجدت منفذاً لتنفيس هذه الازمة قبل أن تنفجر وكما ظهر في الايام الاخيرة في اليمن؛ فالسلطة شأنها عظيم ولا يمكن التنازل عنها بسهولة بعد عقود من الحكم والمنافع الكبيرة المترتبة سواء المادية أو المعنوية للرئيس ولأعداد كبيرة من المنتفعين من حوله بدءاً بأفراد عائلته مروراً بأقاربهم واصهارهم وانتهاءً بشركائهم.

هؤلاء سيستخدمون كل ما بين ايديهم من قوة للاستمرار في مواقعهم حتى لو تسبب ذلك في قتل وتدمير وحرب أهلية كما نشاهد اليوم في ليبيا، ويبدو أن مسار الأحداث في سوريا يتجه نحو هذه النهاية المأساوية في حال لم يتدخل الجيش. في تونس ومصر أدركت قيادات الجيش هذا الاحتمال السيء بالانزلاق نحو العنف والعنف المضاد لذلك تدخلت ووضعت نهاية لأزمة الصراع على السلطة. خروج زين العابدين بن علي ساعد الجيش في حسم الأمر والسيطرة على بقية الأجهزة الامنية و انهاء العنف في بداياته.

في اليمن وبسبب تردد الجيش وانقسامه فقد تحولت المواجهة السلمية إلى صدام مسلح انتهت إلى محاولة اغتيال للرئيس وكبار المسئولين في الدولة. لنتصور للحظة أن حالة الرئيس الصحية سمحت له بالبقاء في اليمن فكيف سيكون الرد؟ لاشك أنه سيكون قاسياً وسيتلاشى ما تبقى من حكمة يمانية- إن كان بقي شيء منها- وسيكون الانتقام سيد الموقف مما يعني الدخول في حرب شاملة لا تبقي ولا تذر.

لذلك جاء القرار السعودي باستضافة الرئيس ليقطع الطريق أمام هذا التحول الكارثي ولحماية اليمن من الدخول في مستنقع الحرب الاهلية. المؤكد أن وجود الرئيس في الرياض للعلاج يمثل الخطوة الاولى لأنهاء أزمة الحكم في اليمن والرياض بهذا القرار فتحت الطريق أمام ترتيبات مستقبل اليمن بعد بشكل سلمي؛ حيث تراجعت فرص اللجوء إلى العنف بخروج الرئيس وأصبحت الفرصة مهيأة أمام كافة الأطراف سواء من تبقى في السلطة أو في اللقاء المشترك أو من شباب الثورة للجلوس إلى طاولة الحوار لرسم مستقبل آمن ومزدهر لليمن.

ولكن وإضافة إلى الرغبة في إيجاد مخرج لأزمة الصراع على السلطة فهناك تفسير آخر للقرار السعودي باستضافة علي عبدالله صالح ومن قبله زين العابدين بن علي ويتمثل في رغبة الرياض في لعب دور في توجيه هذه التحولات الكبرى التي يشهدها الوطن العربي. فمنذ انطلاقة الشرارة الاولى للانتفاضات الشعبية تتسابق عواصم دولية واقليمية على التأثير عليها ومحاولة توجيها ادراكاً منها لأهمية هذه الثورات على مستقبل المنطقة بشكل عام وكذلك على مصالحها. فواشنطن وموسكو ولندن وباريس وكذلك طهران وانقرة وحتى اسرائيل جميعها تحركت ولا تزال لكي يكون لها نصيب من نهايات هذه الثورات، إما بتقليل الضرر أو تضخيم المكاسب.

وبعض هذه العواصم كشفت دون أي مجاملة دبلوماسية عن مساعيها في التدخل في الشأن العربي متخذة شعار التعاطف مع تطلعات الشعوب ذريعة لها للتأثير في الأحداث من خلال التصريح والزيارات وعقد المؤتمرات وتنظيم اللقاءات مع الأطراف المختلفة للانتفاضات الشعبية. ولسنا ببعيدين عن المؤتمر الكبير الذي نظمته تركيا للمعارضة السورية وأُعلنت نتائجه على الملاء.

ايران من جهتها لا تتوقف عن التصريحات بدعم تطلعات الشعوب العربية للحرية والحكم الديموقراطي. وحتى نتينياهو لم يترك الفرصة دون التعبير عن موقف تجاه هذه الثورات، في حين نجد أن المسئولين في الولايات المتحدة أصبح أحد همومهم الرئيسة كيفية توجيه هذه الثورات الشعبية بما يتفق مع مصالحهم. جميع هذه الدول بلاشك تتحرك نحو الأحداث العربية وفق مصالحها واجنداتها حتى لو زعمت غير ذلك.

اذاَ في ظل هذا التنافس الدولي والاقليمي المحموم على الثورات العربية ومحاولة احتوائها وفق اجندات مختلفة كان متوقعاً ومطلوباً من المملكة انطلاقا من مسئولياتها ومكانتها في الوطن العربي أن تتحرك وتبادر للمساهمة في عملية التأثير هذه التي يجب أن لا تقتصر على اطراف أجنبية حرصاً على مصالحها وعلى مصالح الامة العربية.

لا أظن أن هناك من يختلف مع أحقية المملكة في الدخول في هذه المنافسة القائمة أصلاً سواء شاركت فيها المملكة أم لم تشارك، بل قد يكون واجباً على المملكة أن لا تغيب عن هذه المنافسة الغربية الروسية التركية والإيرانية على تشكيل مستقبل الامة العربية.

الخلاف قد يكون على طبيعة المشاركة السعودية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى عدم وضوح الموقف السعودي من هذه الثورات بشكل دقيق وشفاف؛ وهذا هو سبب الشك والقلق ومصدر الحديث عن ثورة مضادة تقودها المملكة ضد هذه الثورات الشعبية.

المشكلة التي يعاني منها الموقف السعودي هي عدم الوضوح ولعل هذا راجع للطبيعة المحافظة للسياسة الخارجية السعودية من جهة، وإلى عدم تشكُل موقف نهائي من هذه الثورات الشعبية لدى صانع القرار من جهة أخرى. هذا التردد عن إعلان موقف صريح يمكن تفسيره بالطبيعة المحافظة للثقافة السياسة السعودية التي تشترك فيها النخب مع العامة فهي لا ترغب في التغيير وتخشاه وتميل دائماً للاحتمال الاسواء في قراءة الاحداث من حولها. صاحب القرار قد يرى أن تسارع الأحداث قد يتطلب غموض في الموقف، وقد يكون هذا خياراً سليماً بشرط أن يكون الغموض مقصود وليس نتيجة تردد في تحديد موقف.

المحافظة السياسية خدمت المملكة في السابق والشواهد كثيرة من خلال قدرة المملكة على احتواء ضغوط وتحديات كبيرة ليس آخرها هجمات سبتمبر واحتلال العراق وتبعاته الخطيرة على الأمن الوطني السعودي. ولكن لابد من الاشارة إلى أن هذه النزعة المحافظة التي تتسم بها السياسة السعودية بشكل عام ليست جامدة بل تتفاعل مع التغيرات، وإن كان بوتيرة بطيئة ولعل في قيادة المملكة لقوات درع الجزيرة في البحرين مؤشراً جديداً على هذ القدرة على تجاوز المحافظة حين يكون هناك خطر حقيقي للقيم الاساسية للمملكة سواء كانت تتعلق بالاستقرار أو الوحدة أو حتى حماية المجال الحيوي.

خلاصة الأمر أن تدخل المملكة ومحاولتها التأثير على الثورات الشعبية يعد أمراً مبرراً في ظل هذا التنافس الاقليمي والدولي على quot;اختطافquot; هذه الثورات وذلك حماية لمصالحها كدولة اقليمية كبرى ودفاعاً عن مصالح الشعوب العربية.

ما يحرك السياسة السعودية تجاه الأحداث الراهنة هو الحرص على الاستقرار والامن في الدول العربية التي تعيش حالة اضطراب، وهذا موقف يتسق مع تاريخ السياسة الخارجية السعودية، إلا أن بعض مظاهر هذا التحرك تشير أحيانا إلى أن هذا الحرص تحول إلى قلق مبالغ فيه؛ وهو ما يجعل الآخرين يتوجسون تجاه تحركات المملكة ويتهمون الرياض بقيادة ثورة مضادة.

المسئولية عن سوء الفهم هذا يشترك فيها المسئولون عن السياسة الخارجية بسبب التردد في إعلان مواقف واضحة من الثورات الشعبية، ووسائل الاعلام المحسوبة على المملكة بسبب تغطياتها لهذه الثورات التي تفتقد للثبات، فتارة تؤيد وتارة تظهر تغطيتها بشكل مناوئ لهذه الثورات.

أما القول بأن ما يحرك المملكة تجاه هذه الثورات هو خشيتها من قيام انظمة ديموقراطية مجاورة لها- وهو رأي نجده حتى داخل المملكة - فأرى أن فيه تبسيط مخل لفهم هذه التحولات الراهنة. فما يجري هو شكل من اشكال التغير السياسي، ولكنه لا يعني ولا يضمن تحولاً نحو الديموقراطية التي قد لا تكون شروطها متوفرة حتى اللحظة.

ما يحدث الان يمكن وصفهndash; إذا جازت التسمية- بالانفلات السياسي حيث يصبح كل شيء ممكن؛ ولاشك أن هذه ردة فعل طبيعة على عقود من التسلط والقمع واحتكار السلطة، ولعل هذا ما يفسر الاعلان كل يوم عن تأسيس احزاب وتنظيمات وظهور صحف ومجلات وكذلك تواصل التظاهرات. هذه حالة طبيعية ويمكن ان تثمر عن تحول ديموقراطي، لكنها لا تعني ضمانة تحقق هذا التحول أو ترسيخه في المستقبل وعدم انتكاسته.

وفي ظني أن المسئولين في المملكة يدركون المخاض الصعب للأنظمة الديموقراطية والانتكاسات التي قد تحدث في مسيرة الانتقال كما تدل شواهد كثيرة، لذلك فهم ليسوا في حاجة للقلق بشأن احتمال إحاطة المملكة بأنظمة ديموقراطية حديثة تشكل ضغطاً على الوضع السياسي الداخلي.

لاشك أن كافة الاحتمالات ممكنة لكن المطلوب هو التحرك وفق قراءة هادئة بعيدة عن العاطفة، وأن لا يكون تحركنا اسير الأحداث المتسارعة. علينا أن نصل إلى قناعة بإمكانية الجمع بين معادلة الاستقرار والتغيير السياسي، وأن أياً منهما لا يجب أن يكون على حساب الآخر. فيمكن المحافظة على الاستقرار من جهة، وإحداث تغير سياسي يؤسس لأنظمة حكم حديثة قائمة على المشاركة والعدالة واحترام الحقوق والحريات من جهة أخرى.

نجاح التحرك السعودي يتطلب أيضاً ضرورة التناغم بين السياسة الخارجية وذراعها الاعلامي، والاهم من ذلك الانفتاح على مختلف التيارات المتنافسة على تشكيل الانظمة السياسية في الدول التي شهدت احتجاجات، ومنها أهمها تنظيم الاخوان المسلمون. فلا مبرر للخوف والتوجس من هذا التنظيم واحتمالات وصوله الى السلطة فهذا ممكن وهو حق لهم. الخيار الاسلم هو الانفتاح على التنظيم وتجاوز ما رسخ من انطباعات سلبية نتيجة تجارب سابقة، فنحن اليوم أمام مرحلة جديدة تتطلب درجة عالية من المرونة السياسية.

أخيراً نجاح المملكة في التأثير على مجريات الأحداث الكبرى في المنطقة لا يمكن أن يتأكد دون دعم تحركها الخارجي بمشروع إصلاح داخلي شامل يكون ركيزة لسياسة خارجية نشطة مدعومة شعبياً وهذا متطلب في غاية الاهمية. فقبل أن نقلق بشأن فهم وموقف الآخرين لتحركاتنا، علينا أن نحرص على كسب دعم وتأييد الداخل لهذا التحرك وهذا له شروطه التي أظن أنها لم تتوفر بعد.

إن من شروط الخطاب السياسي الناجح التماسك والتناغم بين كافة أبعاده؛ فلا يمكن تبني خطاباً للخارج وآخر للداخل، خاصة في عصر الثورة التقنية التي ازاحت الحواجز بين الدخل والخارج وجعلت الشأن المحلي مكشوفاً وعرضة لكافة التأثيرات الخارجية كما يشهد بذلك وضع الدول العربية التي تعيش حالة ثورية. التحدي الصعب الذي يواجه الوطن العربي كافة هو الوصول إلى معادلة تجمع بين الاستقرار الذي يطمئن النخب الحاكمة وتطلعات الجماهير في الحكم الرشيد.

أ.د صالح بن محمد الخثلان

استاذ العلوم السياسية

جامعة الملك سعود

[email protected]