لا يكاد يمر يوم في مصر، منذ اندلعت شرارة الثورة، من دون أن يشهد فلتاناً أمنياً وأعمال عنف وشغب وتخريب. هذا الأسبوع وقعت عدة أحداث بلطجة دلّلت على أن مصر تبتعد بخطى متسارعة عن الاستقرار الأمني الذي بدأ في التدهور في الخامس والعشرين من يناير. من كل أحداث البلطجة هذه توقفت أمام حدثين مؤسفين لم يكنا ليحدثا لو كانت مصر تنعم بالأمن والاستقرار. الحدث الإول جرت وقائعه في ميدان التحرير وتم خلاله الاعتداء على مراسلة إحدى القنوات القبطية بعد انتشار شائعات بين بعض متظاهري الميدان تعلقت بهويتها التي زُعِمَ أنها إسرائيلية. الملاحظ أن هذه الحجة هي نفسها التي استخدمها متظاهرون بميدان التحرير اعتدوا جنسياً على مذيعة شبكة سي بي إس الأمريكية لارا لوجان. الحدث الثاني قام فيه أبناء إحدى قرى العياط بمحافظة الجيزة بقطع الطريقين البري والحديدي المتوجهين إلى الجنوب إحتجاجاً على قيام شركة الهاتف الجوال التي يمتلكها رجل الأعمال نجيب ساويرس بتركيب برج إرسال واستقبال بالقرية، ما تسبب في تعطل مصالح وأشغال عشرات الألاف من المسافرين بين الشمال والجنوب.

المشهد العام في مصر الذي ترسمه أحداث العنف والبلطجة قاتم تماماً ولا يدعو للتفاؤل. فمصر لم تعرف مثل هذه الحالة من الانهيار الأمني حتى في أحلك أوقاتها تحت الحكم الدكتاتوري الذي عرفته في الستين سنة الماضية. هذا المشهد القاتم يؤكد على أن قوة القانون انهزمت وأن قوة البلطجة انتصرت، وأن حكمة المنطق والعقل اختفت وحلت محلها حماقة الصوت العالي والقدرة على استخدام الشارع كأداة ضغط على المجلس العسكري الحاكم، وأن سمات الاعتدال والتسامح التي عرف بها غالبية المصريين اختبأت وظهرت بدلاً منها علامات التطرف والرغبة في الانتقام. الأمر باختصار سيء وطريق مصر نحو الحرية والديمقراطية والتنمية أصبح مليئاً بالمنعطفات الحادة والمفاجئة والمخيفة.

المسئولية عن هذا المشهد القاتم تقع على عدة أطراف يأتي على رأسها من يطلقون على أنفسهم لقب quot;ثوارquot; وينسبون لأنفسهم شرف إسقاط النظام السابق ويتطلعون لقيادة مصر في المرحلة المقبلة. أشاع هؤلاء حالة عدم الاستقرار في المجتمع المصري بعدما اتخذوا من الشارع ملجأ لهم لمواجهة ما لا يتفق مع رؤاهم. وإذا اعترفنا بموضوعية بعض التظاهرات، إلا أن الكثير من حالات اللجوء للشارع كان إما خاطئاً أو على أقل تقدير بلا مبرر. ولعل تضامن quot;الثوارquot; مع الاعتصامات التي قام بها بعض أهالي محافظة قنا احتجاجاً على تعيين محافظ قبطي يعد مثالاً بسيطاً على حجم الأخطاء التي وقع فيها quot;الثوارquot; الأشاوس. ورغم المسئولية المباشرة لهؤلاء عن المشهد القاتم الذي يصور مصر اليوم إلا أن المسئول الأول عن الأوضاع السيئة هو المجلس العسكري الذي يتولى إدارة شئون مصر منذ تنحي الرئيس السابق مبارك.

أخطأ المجلس العسكري في الأيام الأولى له في الحكم حين جعل من الشارع مركز قوة يمكنه استصدار القرارات وليس فقط التأثير في صناعتها. وقد عبر الداعية الإسلامي المعروف صفوت حجازي عن قوة الشارع حين قال أن الثوار لا يطلبون ولكنهم يأمرون. وقد صدق حجازي، إذ أن الغالبية العظمى من القرارات التي تتخذ في مصر تصدر عن طريق أوامر يصدرها الشارع وينفذها المجلس العسكري. كانت النتيجة أن كل جماعة لها مطلب فئوي أو طائفي صغير أصبحت تلجأ للشارع بغرض استصدار قرارات عن المجلس العسكري. ليس التظاهر في حد ذاته خطأً يستوجب المواجهة بل أنه حق من الحقوق الإنسانية المشروعة والتي تكفلها القوانين للشعوب للتعبير عن إراداتها. لكن الخطأ كان في التظاهرات سيئة السمعة والتي نتجت عنها تنازلات غير مقبولة من قبل المجلس العسكري. وربما كان تنازل المجلس العسكري عن كرامة الدولة في استجابته لمتظاهري محافظة قنا الذين رفضوا المحافظ المسيحي كان أسوأ هذه التنازلات على الإطلاق.

لم يكن الخضوع أمام قوة الحشود وحده هو الخطيئة الوحيدة للمجلس العسكري، ولكن اللين مع البلطجية كان أيضاً أحد أهم الأخطاء، إذ أنه رغم إصدار قوانين جديدة تشدد من العقوبات بحق البلطجية، إلا أن أحداً لم يتم عقابه بالصورة المطلوبة حتى اليوم. ومع سياسة اللين التي اتبعها المجلس العسكري لم يكن غريباً أن تنتشر حالات الاختطاف والتهديد والنهب والسرقة والقتل والتمثيل بالجثث. وقد رأيت بأم عيني قبل نحو شهرين على موقع الـ quot;يو تيوبquot; مشهداً يشيب له شعر الرأس يقوم فيه بلطجية بالتمثيل بجثة أحد الأشخاص الذين يرجح أنها لرجل شرطة. وقعت الجريمة فوق ظهر عربة نقل أما المارة باحد الشواع بينما كان العشرات يصرخون quot;الله أكبرquot; ويهتفون احتفالاً. وقد قام موقع الـ quot;يو تيوبquot; حذف المقطع بالكامل نظراً لبشاعة المشاهد التي يصعب مجرد تصديق أنها وقعت في شوارع مصر.

تفاقُم قضية الخروج عن الشرعية والقانون لم يكن فقط بسبب عدم مواجهتها بصرامة وحزم ولكن أيضاً لأن المجلس العسكري لم يتعامل معها بصراحة وجدية. أراد المجلس العسكري التودد للـquot;ثوارquot; بغرض كسب ثقتهم. استخدم المجلس شتى الطرق للوصول إلى قلوب quot;الثوارquot; والفوز بمودتهم، حتى أنه صار يؤيد ويتبنى بياناتهم ويردد ما يجيء على ألسنة قادتهم. عندما ألقى الـquot;ثوارquot; بمسئولية أعمال البلطجة على رجال النظام السابق ووصفوها بالثورة المضادة، كان الجيش من أوائل الذين وجهوا أصابع الاتهام لرجال الحزب الوطني باستخدام العنف لتخريب مكتسبات الثورة. وبموافقة المجلس العسكري صارت كلمة الـquot;فلولquot; هي القاسم المشترك في كل أعمال البلطجة المنظمة والعنف الطائفي والتخريب المتعمد التي ترتكب في مصر. وإذا كنا نقر بأن إنكار إمكانية وجود محاولات لرجال الحزب الوطني لتعكير صفو الأجواء في مصر أمر غير منطقي، فإن ترديد نغمة الـquot;فلولquot; بعد كل عمل عنف أمر مقبول.

أما وقد بلغ المشهد القاتم في مصر مرحلة حرجة، فهل من أمل في أن تعود للبلد عافيتها الأمنية؟ كأس الأمل فرغ نصفه بعد التزايد المخيف في وتيرة أعمال البلطجة والعنف الطائفي والاعتصامات الفئوية. لم يعد الموقف يحتمل تهاوناً أو تراخياً أو مجاملة. من المهم أن يضع المجلس اليوم حجر أساس الأمن والاستقرار قبل أن يفرغ كأس الأمل تماماً. على المجلس العسكري أن يبدأ فوراً في وقف المهازل التي تحدث بصفة يومية عن طريق فرض القانون ووقف التنازلات التي تهدر هيبة مصر والبعد عن سياسة التوازنات. المصارحة والحزم والمصالحة والتسامح هي الأسس التي يجب أن تقوم عليها سياسات المجلس العسكري حتى تنتقل مصر من حالة الفوضى وعدم الاستقرار إلى مرحلة الأمن والسلام الداخلي. من غير المقبول أن تنزلق مصر إلى هاوية الحرب الأهلية، ومن غير المقبول أن يبقى البلطجية والمجرمون من دون عقاب إرضاء لرغبات البعض في الانتقام من رجال النظام السابق. وإذا كان على المجلس العسكري اعتماد الحزم والصراحة في أسلوب أدارته لشئون البلاد، فإنه من واجب كل مصري أن يتمتع بالتسامح والمصالحة حتى تسهل مهمة المجلس العسكري في استرداد الأمن والاستقرار والسلام الاجتماعي.

[email protected]