لم يعد للحديث والخطاب السياسي الرسمي في العراق أية صدقية، بإنتهاء مهلة المائة يوم التي حدّدها رئيس الوزراء العراقي من أجل تحسين الإداء الحكومي، دون تحقيق أية نتائج عملية ملموسة على الصعيد الداخلي، ولا التقدّم خطوة واحدة بإتجاه معالجة الأزمات السياسية والإجتماعية العديدة التي كانت ولا زالت تعصف بالبلاد، لا وبل تخللت تلك المهلة الحكومية أيضا، المزيد من التراجع في الوضع الأمني ومن التخبّط السياسي في القرارات وتطويع القوى السياسية المتنفذة للقوانين السارية لخدمة أغراضها، والعبث السياسي بالمواد الدستورية، لتمرير صفقة quot;السلة الواحدةquot; لنواب رئيس الجمهورية، بالإضافة الى المزيد من الإعتقالات الكيفية والتجاوز على القانون والتضييق على الحريات العامّة، ومواجهة التظاهرات الشعبية بأبشع الوسائل والطرق القمعية.

وكما إتضح الأمر جليا، فقد كانت الدوافع الحقيقية وراء تحديد المائة يوم quot;عدّاquot; كفترة زمنية قصيرة بدون أدنى شكّ، هي غير دوافع الحرص والمثابرة والإندفاع نحو العمل التي تمثلتها الحكومة العراقية عن التجربة اليابانية لإعادة بناء بلدهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولا نابعة أيضا عن نضوج مماثل لنضوج القادة الأفارقة الذين إجتازوا المرحلة الإنتقالية في جنوب أفريقيا صوب الديمقراطية في غضون سنتين، وإنّما كانت تلك الدوافع وبالأحرى المخاوف، ناجمة عن إدراك واع لحجم الغليان الشعبي المستوطن الذي تأسس عليه الوضع العراقي الجديد وإمكانية شموله ضمن موجة التفجرات التي تجتاح المنطقة العربية وبالتالي لم تكن في واقع الأمر إلاّ محاولة بائسة لكسب الوقت بهدف إمتصاص النقمة الجماهيرية والإلتفاف على مطالبها المشروعة في حياة تليق بالبشر.

وعلى عكس ما توحي به ظاهر الامور، ليست الأوضاع السياسية الحالية هي ثمرة نتائج الإنتخابات التي جرت في شهر مارس 2010 والتي تمخضت حينها عن صراعات إضافية وتجاذبات جديدة، لم تزل تجرّ أذيالها حتى يومنا هذا، بين كتلتي العراقية ودولة القانون، وإنّما كانت تلك النزاعات العقيمة هي مجرد حلقة أخرى في سلسلة حلقات الصراع الدائر حول مواقع السلطة والثروة والنفوذ منذ سقوط النظام الديكتاتوري عام 2003، وكانت السبب والنتيجة في آن واحد، للدوران حول الذات والتمديد المتواصل للأزمات الإجتماعية العميقة، والأساس الحقيقي لإنسداد الأوضاع السياسية الراهنة التي تعتاش على توليدها أغلبية أقطاب ورموز العملية السياسية في العراق.

فالصراع الطائفي الذي نهضت عليه العلاقات القائمة ونهج المحاصصة الذي أتبعته الأحزاب والقوى المتنفذة منذ البداية، لا يلبث إلاّ أن يجدّد صوره وأشكاله دوريا، بدون النجاح في التحوّل الى صراع سياسي بالمعنى الحديث إلاّ من الناحية الشكلية. وهو ما يفسّر العجز عن التوصل الى الإجماع السياسي الداخلي وبناء أغلبية سياسية ثابتة ومن ثمّ التعاون بين الأطراف الأساسية المتنفذة في سياق نظام سياسي جديد وفي إتجاه يتماشى مع قيم الديمقراطية التي تعني قبل كلّ شيء، إحترام القيمة الإنسانية والشعور بالمسؤولية والمساواة الكاملة بين الأفراد والحرص على حمايتهم وأمنهم، وتعزيز روح المشاركة الجماعية، كمقدّمات أولية لحكم القانون والمؤسسات وإحترام الحقوق والحريات.

لا يمكن لهذه الصورة المسيئة للديمقراطية أن تستمر الى ما لا نهاية، كواجهة صورية وشكلية، وكآلية إنتخابية إحصائية محصورة بصناديق الإقتراع، ومقطوعة الصلات بسياقاتها السياسية والإجتماعية والثقافية الأخرى التي تعني برامج عمل طويلة المدى يجري الإلتزام بها والرقابة عليها والمسائلة فيها، ومن دون ذلك فمن الطبيعي أن تصب نتائج الدورات الإنتخابية دوما، في صالح أمراء الطوائف وأحزاب المليشيات والأجندات الخارجية الأكثر قدرة على التلاعب والتحكم الفعلي بها وبنتائجها في غياب قوانين وإجراءات ناظمة لها، وأخرى خاصة بالأحزاب المشاركة فيها، على ضوء برامج وطنية واضحة وصريحة.

وبهذا المعنى، لم تكن الديمقراطية بمنظور الحاكمين في العراق هذا اليوم، مشروعا تاريخيا يرتبط بالردّ الإيجابي على حاجات الأغلبية الشعبية التي ذاقت الأمرّين من الديكتاتورية طيلة العقود الأربعة الماضية، والعمل على إرضائها بتوفير فرص العمل وتأسيس قواعد العدالة وضمان المساواة أمام القانون وإحترام كرامة الأفراد ومشاعرهم، وإنّما كانت مجرد شعارات فارغة وخطابات مملة ووعود كاذبة وأداة للوثوب الى السلطة أي أنّها كانت مشروعا تلفيقيا لا تزال تنهل منه هذه الطائفة وذاك الحزب ما يشاء، وتترك وتهمش ما يفيد سواها ويضمن مصالحهم ويحفظ التوازن العام. وحين تتصف النخبة الحاكمة بالأستئثار والإحتكار والشراهة والتكالب بهدف الوصول للمكانة السياسية، لا يمكن أن يتحلى المواطن العراقي البسيط، بالصبر والتضحية ونكران الذات في أوضاع تتسم بالخداع والفساد والغش والتزوير والرشوة العلنية التي يراد لها أن تعمّم على الجميع، كمعايير وحيدة للنجاح والإرتقاء في المكانة الإجتماعية. إذ هكذا لم يكن التغيير من الديكتاتورية الى نقيضها الديمقراطي المزعوم، سوى إنقلاب سطحي في نظام السيطرة على الموارد والنفوذ وتحوير للحكم الإستبدادي الفردي الى حكم أفراد مستبدين لم تعلمهم سنوات الجمر الطويلة، معاني الحقّ والقانون.


[email protected]