مللنا من تكرار القول بأن حزب البعث يعيش آخر أيامه. فقد تآكل وتضاءل وأصبح مجرد هيكل عظمي منخور، لا يهش ولا ينش. ولكن حكومة نوري المالكي ترى غير ذلك. فهي مصرة على إحيائه، وعلى بعث الدم في شرايينه من جديد، بترويج الأساطير الخرافية عنه وعن خطورته، والزعم بأنه القائد الحقيقي والوحيد لكل حملات القتل والتفجير والتفخيخ التي تستهدف المواطنين المدنيين في مساجدهم وحسينياتهم وأسواقهم ومدارسهم ومستشفياتهم.
فلا تفسير للقانون الجديد الذي بشرنا وزيرُ الدولة الناطق الرسمي باسم الحكومة بإقراره من قبل حكومته، والقاضي بالسجن عشر سنوات لمن من يثبت انتماؤه لحزب البعث، أو من يروج لفكر البعثيين.
فإما أن حكومة بغداد آخر من يعلم بحقيقة هزال حزب البعث وضموره واقترابه من الموت السريري التام، أو أنها تتعمد المغالطة بشأنه، لأنها تحتاج إلى بعبع تخيف به العراقيين، وتتملص، بذريعته، من مسؤوليتها الكاملة عن الانفلات الأمني، وعن اخترقات الإرهابيين المتواصلة لأجهزة أمنها ومؤسساتها العسكرية، أو أنها تريد حجة قانونية تتيح لها استهداف المتظاهرين الشباب العنيدين الذين لا يكفون عن التظاهر والاحتجاج واتهامهم، قانونيا، بأنهم بعثيون أو يبشرون بفكر البعث، لكي تفتك بهم وتمزق شملهم قبل فوات الأوان. خصوصا وأنها ترى وتسمع كيف يتخلى الأمريكان عن حلفائهم بسرعة، حين تكثر الشكاوى من ظلمهم، وتتصاعد الاحتجاجات على فسادهم.
وقد برر علي الدباغ دوافع حكومته لإصدار مثل هذا القانون بـ quot;حرصها على حظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي، أو يُحرض أو يمهد أو يمجد أو يبرر ذلك، وخاصة حزب البعث ورموزهquot;
إذن فحزب الدعوة يوقض التاريخ السيء من سباته فيلجأ لنفس أساليب صدام حسين المريرة ضد معارضيه، ويُصدر قانونا يشبه القانون الصدامي (القره قوشي) الشهير الذي فرض عقوبة الإعدام على كل من يثبت انتماؤه لحزب الدعوة، أو من يبشر بفكره.
وكما أن عقوبة الإعدام تلك خدمت حزب الدعوة وصورته على أنه المارد الجبار الذي استطاع أن يخيف نظاما ديكتاتوريا قمعيا رهيبا كنظام صدام، وفتحت عليه خزائن دول الجوار ومخابراتها، وخاصة إيران وسوريا، وجميع القوى العربية والدولية الأخرى الكارهة لصدام حسين وحزبه، فإن عقوبة العشر سنوات التي قررها حزب الدعوة مؤخرا سوف تخدم حزب البعث وتعيد إليه الاعتبار.
فهو، بقانونه الجديد، (يتهمه) بالقوة والجبروت، ويشيع عنه أنه الحزب القائد الجسور الذي يحرك كل ما شهده العراق ويشهده من تظاهرات واحتجاجات واعتصامات، في بغداد وباقي مدن العراق وقراه، وبأنه القوة الخفية التي تفجر كل يوم مفخخة أو سيارة ملغومة، هنا وهناك في الوطن. وهو في الحقيقة والواقع غير ذلك، بشكل أكيد. فأغلب البعثيين هجروه. بعضُهم قد ارتمى في أحضان منظمة بدر، وبعضٌ قد انخرط في خدمة جيش المهدي، أو أجهزة مخابرات النظام الجديد، أو جيوش الإسلام السنية الأخرى التي اتخذت من لعبة مقاومة الاحتلال الأمريكي مهنة مربحة.
والمحير كثيرا أن حكومة المالكي تلاحق بعث العراق بكل هذه الضراوة لكنها تصاحب شقيقه البعث السوري الذي يحتضن أيتام عزة الدوري ويونس الأحمد، ويأمر أو يشجع عمليات اختراق (مجاهديهم) لحدود العراق، وزراعة النار واليتم والخراب في منازل العراقيين الأبرياء، ويصر، رغم كل توسلات نوري المالكي وإغراءاته، على رفض تسليم المدانين منهم، بشمم وإباء.
هذا مضافٌ إلى أن نوري المالكي وحزب الدعوة أعرفُ من سواهما بأن الإرهاب الحقيقي، من أول أيام سقوط نظام صدام وإلى اليوم، ليس بعثيا كلـُه، بل إن أكثره إرهابٌ إسلامي سلفي خارجي قادمٌ من وراء الحدود، وإن أكثر من يموله ويسلحه ويدربه ويدخله إلى العراق أعوانُ الولي الفقيه ومخابراتُ البعث السوري الذي تدافع عنه إيران اليوم وأحزابُها الدينية الحاكمة في العراق، وتعارض من يتظاهر ضده ويهتف بسقوطه، وتعتبر سحق دباباته لأجساد المدنيين العزل من معارضيه عملا وطنيا مشروعا لا غبار عليه.
ففي خطابه الأخير الذي ألقاه خامنئي عند ضريح الإمام الخميني بمناسبة مرور 22 عاما على وفاته أشاد بانتفاضات اليمن وليبيا والبحرين، وتناسى أو طنش، بعبار أصح، عن انتفاضة الشعب السوري البطل التي فاقت، في عنفها وجبروتها، جميع انتفاضات الجماهير العربية الباسلة. قال quot; إن انتفاضات شعوب (اليمن وليبيا والبحرين) سيكون حليفها النصرquot; ولم يقل شيئا عن آلاف الشهداء والضحايا والمفقودين والسجناء في درعا وحماة وحمص ودمشق واللاذقية وطرطوس.
الحقيقة التي تجاهلها حزب الدعوة ونوري المالكي وحكومته هي أن العقوبة التي كان يستحقها حزبُ البعث بجدارة من الحكومة ومن الشعب العراقي كله، الأكثرَ فاعلية والأنجحَ والأقدرَ على دفنه ودفن فكره الشوفيني المتخلف بأسرع ما يمكن، هي عقوبتان، الأولى إهمالـُه ونسيانه واعتباره ذكرى مزعجة من ماض ٍ أسود ندعو الله ألا يعيده على عباده الآمنين، والثانية تقديم البديل الأصلح والأعقل والأكثر نزاهة وعدلا وديمقراطية، ووأد الطائفية واجتثاث الفساد والمفسدين، وتعويض العراقيين، دون تمييز أو تفريق، بمزيد من الخبز والكرامة والحرية والأمان.
لكن حزب الدعوة لا يريد أن يتخلى عن روحه الثأرية الحاقدة، ولا عن طائفيته الزائدة، ولا عن فكره المتزمت البغيض.
- آخر تحديث :
التعليقات