الفضائع التي رواها شهود عيان فروا من بلدة تلكلخ السورية تبعث على الهلع بالنسبة لشخص آمن يقيم على بعد آلاف الأميال من سوريا. شهادات من نساء جريحات ومحمولات على اكتاف الأزواج تقول أن عصابة laquo;الشبيحةraquo; وسكان الجبال المجاورة يريدون فناءهم.
ورغم وجود مئات الروايات والدلائل على الطائفية المرعبة والغيبية التي يقمع بها النظام للاحتجاجات المطالبة بإسقاطه، إلا أن رواية أخرى مرت مرور الكرام في التغطيات الاعلامية هي أكثر هلعاً وخطورة من تعرض عائلات سورية للذبح على أيدي جيرانهم السوريين المنتمين لطائفة بشار الأسد.
مصادر أمنية لبنانية أكدت تسليمها جنديين سوريين إلى النظام السوري، وأحد الجنديين كان مقتولا والآخر جريح. وتحدثت تقارير عن عدد اكبر من الجنود الذين فروا من إطلاق النار على المدنيين في تلكلخ وتمت إعادتهم إلى أجهزة الأمن السورية. وفي التفسيرات التي لا تصل إلى وسائل الاعلام، ان رستم غزالة (آخر حكام سوريا في لبنان) هدد الحكومة اللبنانية باجتياح شمال لبنان في حال لم يتم التصدي للفارين من القصف المدفعي على قراهم. المطلوب إعاقة وصول النازحين ومضايقتهم لإجبارهم على العودة وإبعادهم عن كاميرات وسائل إعلام وصلت إلى الجانب اللبناني من الحدود. وحدث ذلك فعلا قبل موجة النزوح الأخيرة بأسبوعين، وعاد بعض الأهالي إلى مناطقهم. وهنا أيضاً أثبت لبنان أنه من الصعب عليه ان يصبح دولة، فسلطة اهالي منطقة وادي خالد الحدودية كانت قوية هي الأخرى، واستمروا في إيواء أقاربهم السوريين عندما اقتحمت الدبابات بلدة تلكلخ، بينما عاشت ndash; ولا زالت ndash; الحكومة اللبنانية منذ ذلك الحين لحظات تمنت لو انها لم تكن موجودة. وربما تحسرت الحكومة اللبنانية على تأخر نجيب ميقاتي تأليف وزارته وبالتالي إزاحة عبئ تقديم مساعدات إغاثة إلى النازحين وإثارة غضب حكام دمشق.
نواب المنطقة الحدودية هربوا في سياراتهم بعد دقائق من وصولهم إلى أماكن تجمع النازحين لمجرد سماعهم أصوات الرصاص من مسافة قريبة على الجانب السوري. ربما يصدق العالم أجمع أن الجنود السوريين او معارضين تم تسليمهم إلى دمشق لن يتعرضوا للقتل أو التعذيب الوحشي على أقل تقدير، لكن لا يوجد لبناني يصدق أن ذلك لن يحدث.
المواطن السوري يقول لكل مسؤول لبناني لا يحب أن يرى الأسد يحكم إلى الأبد :laquo;لا تساهم في قتلي لتثبت براءتكraquo; وهو صوت سمعنا صدى الاستجابة له متأخراً من الأمانة العامة لقوى 14 آذار التي أكدت وجوب رعاية النازحين. ولكل مسؤول يريد أن يواصل الرضاعة من ثدي النظام :laquo;لا تقتلني لتثبت ولاءكraquo;.
رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح قام بتسليم انطون سعادة إلى الحكام العسكريين في دمشق اواخر الأربعينات من القرن الماضي. لكن المقارنة غير دقيقة مع ما يجري الآن، إذ لا حكومة فعلية كحكومة الصلح متواطئة مع النظام السوري في حدث بعينه، ولا أجهزة الدولة تعمل بسياسة موحدة. وزارة الخارجية اللبنانية هي أقرب لمكتب دبلوماسي سوري في الخارج، وبعض المكاتب الامنية يسيطر عليها موالون للنظام السوري. إننا نتحدث عن نصف دولة تتحكم ميليشيا مسلحة laquo;ممانعةraquo; بنصفها الآخر. لا توجد دولة فعلية في لبنان يمكن لومها، كما لا فوضى عارمة تجعلها حلاً من التزاماتها الانسانية وإخفاء السلطات حقيقة الضعوط المهينة التي تتعرض لها من ضباط الاستخبارات السورية حاليا.
من ناحية التغطية الاعلامية، اكتفت صحف لبنانية مناوئة للسياسة السورية في دعم خيار إضعاف الدولة اللبنانية بتخصيص مساحة لأخبار أفغانستان مقابل عمودين صغيرين لأخبار الانتفاضة السورية التي من المرجح لها أن تنهي أزمة الدولة اللبنانية الرهينة والقائمة منذ استقلالها عام 1946. ومن الأمثلة التي تصلح أن يتناقلها الحماصنة نكتة هم ليسوا أبطالها، ان فندق البريستول في بيروت رفض استضافة لقاء تضامني مع الشعب السوري نتيجة ضغوط تعرض لها من تنظيمات وأحزاب موالية للنظام السوري.
ما تشهده سوريا ليست معركة لبنانية، لكنها لحظة لبنان في الاستقلال والتي فشلت ثورة الأرز في إتمامها حتى على مستوى استقلالية فندق. يجب عدم اعتبار هذا الوصف تجنياً على تلك الثورة، بل دعوة إلى البكاء على أطلال دولة لن يبقي النظام السوري حتى على ركامها في حال انتصر على الشعب.
أجد صعوبة بالغة في استدعاء جملة قالها الرئيس كميل شمعون عام 1978 في ذروة التدخل السوري والعربي والاسرائيلي في لبنان : laquo;نريد ان نعرف إذا كان لبنان دولة ذات سيادة أو ناديا ليلياًraquo;، المؤكد ان معسكر الزعران الممانع لا يريد دولة أكبر منه، لكن الوقت ليس مناسباً لتفصيلات الأمور وتحديد المسؤولية على فريق. المسألة تخص لبنان برمته : الشعب السوري المنتفض يتساءل وهو يحلم أن ثورته انتصرت منذ الآن :laquo;هل سأتعامل مع لبنان على انه كيان بالغ أم طفل يحتاج دائما إلى رعاية أبوية من ضابط المخابرات؟raquo;. مهما يكن، هناك قائمة من فاتورة حساب يتعين على من هدد فندق البريستول أن يدفعها بكل laquo;ديمقراطيةraquo;.
كاتب سوري
- آخر تحديث :
التعليقات