يكثر الحديث عن الفساد والإفساد هذه الأيام أينما وليت وجهك، في سيارات التاكسي او مجالس الجايخانات وتعليلات الليل وحوارات ما قبل الانتشاء، إضافة الى الصحف والمجلات التي امتلأت فجأة بالدراسات والبحوث عن ظاهرة ظن البعض انها ولدت للتو، بل ونسي الكثير بأننا في بلاد يزدحم فيها القيل والقال وكثرة السؤال، وتعج فيها أشكال وألوان من الفساد وما يقابلها من الإصلاح، حتى تظن ان الكفتين تكاد ان تتعادلا بين الفساد والإصلاح؟

ليس فقط هذا اليوم تظهر فجأة هذه الغيوم الداكنة، وليس اليوم ايضا يهطل هذا المطر الملوث بالسحت الحرام، كما ان الفضيلة لم تلد هذه الأيام لكي تعادل الرذيلة بشكلها المزركش والمعاصر، بل هناك زمن طويل من الصراع العنيف بين الأخلاق العليا والأخلاق السفلى بين عزة النفس ودناءتها، وأكوام من التربية الفاسدة وحقب من الحكم الأعرج، وأكداس من الموروثات التي تبيح المال العام وتستسهل الاغتناء دون القيم والنبل؟

وفي كل الأزمان والأحوال فان الفساد مذموم مذموم رغم ما يحيط به من زركشة وتجميل وإغراء في السلطة والمال والنساء، فهو أساس النخر في أبدان الدول والكيانات كما هو علة النفس والروح حينما يسقط الإنسان عن مجموعة ما فطر الهة به خلقه من عزة في النفس وطهر وإباء.

ولعل واحدة من اخطر مسببات الفساد وتراكمه ومن ثم تكلسه في أبدان البشر ومن بعدهم الدول والكيانات، هو ذات السبب الذي يحيل سائل الحياة الماء اذا ما ركد في مكان ما الى أسن وعفن، فكيف لك ان تبقي مسؤولا او مديرا او حاكما او واليا في ذات الموقع لسنين طوال وهو شئت أم أبيت ابن شرقٍ، مؤسس على الأنساب والاحساب، ولذلك ابتكروا للرؤساء ومجالس التشريع تداولا سلميا وزمنيا محددا للسلطة لا تجوز فيها الولاية لأكثر من دورتين في اغلب مجموعهما لا تتجاوز الثمان سنوات.

وفي فيض الفساد يطوف على السطح الكثير الكثير من الأسئلة المغمسة بالألم والأسى وفي مقدمتها ما ذهب اليه ابا ذر الغفاري حينما سأل الرسول (ص) والصحابة قائلا:
كيف لمرء لديه بضع شياه أي عدة نعاج، وهو مؤمن بحدود الله، ويأتي بعد عدة سنوات ليصبح لديه منهن المئات!؟

وكيف لموظف مسؤول او وزير او حاكم يتقاضى معاشا لا يتوافق إطلاقا مع حجم قصره او عمارته او عدد سياراته ونفقاته أو..الخ ولا يُسأل او يحاسَب؟

لماذا معظم الوزراء والمدراء والمسؤولين يتصرفون كأمراء وملوك وكأن دوائرهم إمارات وممالك في دولة وراثية، حتى ان مات او مرض او استقال عين بدلا عنه ابنه او اخيه، وان لم يوجد فابن أو بنت اخيه وهكذا دواليك وكأنما ارحام هذه الأمة قد جفت ونضبت!؟

دعونا نبحث عن مُنتِجات الفساد وينابيعه وأسباب انتشاره قبل ولوج هستيريا الأعراض والقيل والقال، ونوقف هذه الحمى النزفية التي تنخر الأجساد والكيانات، وتحيل الأوطان الجميلة الى سجون ومعتقلات يضمحل فيها البشر ويهزل؟