جدلية تاريخية واضحة، تهيم في ساحات الشرق، تراعي جيل رافض للهيمنة، وتدمج عوالم الفكر العلمانية والروحانية بمنطق إنساني حضاري، كعنفوان صراع quot; سقراط quot; السلمي مع طغاته إلى الروحانية الصوفية الهادئة ل quot; حلاج quot; مع رافضي ألوهيته الفلسفية، ويجلبهم من الماض السحيق إلى الحاضر من الشباب، لترضخهم على البحث عن حقيقة أثبات ماهيتهم كجيل حر ذو كيان تأبى الذل، ليثوروا ضد عنجهية قوى تبنت مبادئ إنكار وجود الآخر، وضد الذين استطاعوا خلق هالات التقديس من حولهم، وعلى رأسهم أؤلئك الذين تقمصوا روح الشر تحت اسماء ملائكية، وجسدوا الإله على الأرض. زعماء ضيعوا الحقائق في العلن عن الأغلبية من الشعب، وفي السر كانت تجوب نزعة الرفض بسكون في أعماق الكون والبشر، بحكم الجدلية الحاضرة، فأستيقظ الشباب الذي كان ملتهياً حتى البارحة بالبساطة والدهشة في الحياة، ولمسوا الواقع الخفي ذاك وأدركوا حقائق الذات الإنسانية بصفاته التي يجب عليه أن يكون، لا كما هو معروض ومفروض عليه، شباب وجدوا نفسهم فجأة يترجمون مدارك العقل الجديدة، المستوحاة من شعاب الإنترنيت، ويسقطونها على أرض الواقع المليء بالمآسي. سقراط حاضرٌ بغير فلسفته والحلاج بدون صوفيته، يتقمصان شباب يثورون على الطغاة في ساحات الشرق، يساندونهم سياسيون صادقون مع الذات والمجتمع، ومثقفون وكتاب، وحملة أقلام رزينة، ونقاد صارخين، وأعلاميون يبحثون عن الحقيقة بنزاهة الإنسان الحضاري... الصراع كان منذ البدء وسيستمر إلى الأزل، المنتصر والخاسر يتناوبون المراكز، وديالكتيك التاريخ لن يحيد عن مساراته، وضحايا قول الحقيقة موجودون في كل آن، مادام لاغيي الفكر الثائر لا ينقضون من هذا الكون. إنها جدلية الصواب والخطأ، الشعب والطغاة، النقد والكتمان. نخوض عالم يعد الإجرام فيه بحق الشعب الرافض فضيلة، يقننها للمجتمع شريحة تبنت الإجرام مبدأً. وبحكم الجدلية المفروضة، نهضت مجموعات رافضة، منهم في الداخل وجدت ساحات الوطن مراكز لصراع الإضاد، وبدأو يخلقون الثورات بإيمان بلا مناهج، وأخرون وجدوا في الغربة طقوسهم التي حرمت عليهم في أوطانهم، فأصبحوا يخلقون اللذة الكاذبة في المسافات البعيدة، وأوطاناً وهمية بديلة عن الأصل، فخلق صراع عقيم فيما وراء عقل تائه بين الأنا الساكن في الوطن وأنا الغربة، آملاً في كيان فاضل، يجمع بين روح تموت وعيش على أملاً في العودة بكرامة. وقد أنبثق من وراء تلك الأوهام حقيقة تبهر الفكر والعين، وتؤكد حسرة على أن الوطن الفاضل لا يزال هناك حياً وهي الحقيقة الأتية التي تثبتها ثورات الشباب فيها، برزانة وعنفوان تمهد السبيل للحالم أن يرى الحقائق، فهي مسافة وزمن ولقاء مع أبدية روحي سقراط وحلاج الأبيتان، وكأنه لوجودهم حقيقة. عزة نفس الفيلسوف والحلاج المتآله تصوفا، اللذان هدما أنذاك صنم جبروت الطغاة ورفعا صرح الكلمة الناطقة حقيقة، وجعلاها أبدية القوة والتفوق، وكأني بهما ينطلقان إلى الساحات يهدمان أوهام الخوف المبنية حول الأصنام التي بدأت تنهار. يترجمها حركة شبابية لا تتعرف على المألوف من الواقع، يحققون معها ذاتهم قبل القضاء على الذات المؤلهة في اشخاص صدقوا النفاق من أعماقه، وما الشعار النهائي الذي يردده الشارع الآن quot; الشعب يريد أسقاط النظام quot; سوى ترجمة من الماضي، إنها إرادة عظماء الرفض والإباءة أمثال سقراط والحلاج وسبينوزا وغيلان الدمشقي وغيرهم، وهم يتجسدون داخل كل شاب يثور على الهوان، ترجمت تلك الحقائق في خفايا أفكارهم بنزاهة، لتخلق نزعة الطموح إلى الحرية المطلقة فجأة، لهذا يريدون تهديم كل من يقف في وجه رغباتهم بمسيرات سلمية وإرادة على الإستمرارية والصبر على الأهوال، يريدون أسقاط الحواجز وحماتها واصحابها وطواطمها وبناء ثقافة نوعية تواكب الحضارة الإنسانية وبأيادٍ وأفواه لا تتعرف سوى على القلم والكلمة سلاحاً، أوليست هذه نتائج الجدلية التي تهيم في شرقنا؟. ثورات الشرق، الحالية، تدمج عزة النفس مع الواقع الإنساني الملتهب في العقل والغائب حتى قبل حين عن الأرض، لتتشكل منها كتل جماهيرية مفاجئة مصرين على تهديم البناء المخيف حيث أركانه الرعب، يقودهم شباب يتمسكون بمبدأ كلي التكوين، دمجوا فيها القدرة مع الإرادة الصادقة، فهم الآن يهدمون مفاهيم الإنسان المطيع الخانع للطغاة، ويخلقون الحريات المطلقة، ويؤكدون موت حالة الترويض في الإنسان والصمت والخنوع أمام الإملاءات الفرضية من العوالم الفوقية. بين هؤلاء المروضون أحزاب دينية وقومية ومنظمات سايرت مسيرة الطغاة، وللأسف، هم الذين سيمتطون هذه الثورات في الفترات الإنتقالية القادمة، إلى أن تتكمل عناصر ثقافة هذا الجيل الثائر وتينع ثمارهم، حينها ستكون نهاية هذه الأحزاب الدينية والقومية كنهاية الأصنام التي تهدم الآن. إنه الإيمان بالتغيير، بمطلقه، لا علاقة له بالتحاليل الفكرية لحاضر الإنسان المستلب إرادة، وفكراً، ومعيشة اقتصادية يومية، إنه الإيمان الآتي من الصراع المخيف بين عالم هناك يحتكر الوطن والمواطن بالقوة ويظهرها بين حين وآخر، وعالم اصبح شكهم بمآسيهم حقيقة. إيمان له علاقة بجدلية فرض النهوض لجيل آمنوا بقرار الخروج من الجمود بعزيمة الإصرار على السير حتى اكتمال التغيير. الثورات السابقة في التاريخ الإنساني وحتى الثورات الإشتراكية في القرن الماضي، رغم تبنيهم مفاهيم ثقافية، ذات طفرات نوعية، لماض تاريخ الإنسان وحاضره، لم تتمكن من تحرير ماهية الإنسان، كما وردت في أدبياتها، منها من أخرجت الإنسان من محيط مغلق مظلم إلى عالم تلقفه جمود الفكر بعد المرحلة الأولى من مسيرته، ليفكر عنهم أنصاف آلهة مع شريحة تبحث وتتبنى مسيرة الوعي الذاتي للجماهير لتسخرها لعمق مصالحها الأنانية، وفي الواقع العملي لم تعمل أية ثورة على تحرير الذات الإنسانية، بل خلقت فيهم إيماناً هشاً خارج مدارك الفهم، وعلى هذه البنية رسخت القناعات المشوهة ضمن المجتمعات، على أنهم يخدمون أوطاناً، وفي الحقيقة يخدمون مصالح شريحة فاسدة تحت غطاء الانتاج الاقتصادي للوطن. لإستمرارية البيئة الفكرية والإيديولوجية المروعة إنسانياً، التي أنبثقت منها أنظمة الشرق، فرضوا طغاتها وبشكل متواصل على الجماهير الإيمان بالجمود كايديولوجية متكاملة، وبحثوا عن الوسائل التي يرسخ بها تقديس الفرد بالمطلق، وعليه جمعوا حولهم شريحة غير قليلة من المثقفين والكتاب اصحاب المشارب المتعددة وفرضوا عليهم بناء ثقافة خاصة تساير مآربهم في المجتمع. إمكانية تبديل تلك البيئة ظهرت جلية الآن من خلال نزعة الإيمان المفاجئ للشباب الناهض بالتغيير، خلقت الطفرة الثورية لإسقاط الأنظمة، فتشعبت نزعة التغيير بدون أية مقدمات أدبية ثورية أو مفاهيم أيدلوجية أو فلسفة فكرية مسبقة، كما درجت في تاريخ الثورات، وبدون اعتبار للحدود الدولية المصطنعة، تلقفتها شرائح عديدة من المجتمع، أصحاب الوعي النقي للذات، الذين شاهدوا العالم فجأة على حقيقته، من خلال جيل الشباب الثائر، قبل أن يفرض عليهم الإملاءات الإيمانية المنزلة عادة من العلياء المصطنعة، وتلقن عليهم فلسفة الإيديولوجيات الثورية الماضية، بل ظهرت فيهم فجأة بوادر روح سقراط العزيزة وعلياء الفهم الإلهي للحلاج وإرادة سبينوزا الرافض للإملاءات الكهنوتية، وتجولت روحاً في ساحات الشرق، فتجسمت كل ذاك في نزعة رفض التحاور مع الماضي. شباب يخلقون ثورات، يؤكدون على تقبل الحوار مبدءاً بين الأطياف الدينية والقوميات المختلفة عقيدة وثقافة، ونداءات تسمع من الساحات التي تصنع بالسلم والسلام ثورة وتهتف لبناء ثقافة جديدة، لا مكان للرعب فيه، ثورات نبهت العالم بأجمه على أن يبحثوا في ماهية الإنسان الذي سيخلق النهضة الحضارية النوعية القادمة. شبابها فتحوا ثغرة واسعة في التاريخ للأنتقال من عصر الفساد إلى عصر التنوير، بتأكيدهم على إزالة صرح الطغاة وتغيير الثقافة التي خلقها المتآلهون على الأرض. د. محمود عباس الولايات المتحدة الأمريكية
- آخر تحديث :
التعليقات